فاطمة الحاج لبنانية متفائلة في عالم يغص بالشقاء

التشكيلية اللبنانية لا يكفيها الرسم بمتعة، بل إنها ترنو بعينيها إلى مناطق تنقل من خلالها دهشة اللقاء بالطبيعة الساحرة إلى عيني المتلقي، فيكون التلقي هو الآخر عملية ممتعة.
الأحد 2020/09/06
فاطمة الحاج تغني الطبيعة باختراعاتها البصرية

 كلما رأيت واحدة من لوحات كلود مونية التي يصور من خلالها الحدائق المائية شعرت بعظمة الرسم. أهو عملية خلق أم إعادة خلق؟ يترك مونيه متلقيه حائرا. فالرسام اجتهد بصريا وتقنيا ليكون سيد موقفه. فهو رأى غير أنه في الوقت نفسه أعاد خلق ما رآه. حدث استثنائي في تاريخ الرسم لا يمكن وصفه. ذلك ما سعى رسامون أتوا بعد مونيه إلى أن يتعلموه باعتباره درس فضيلة.

تجربة اللبنانية فاطمة الحاج يمكن النظر إليها في ذلك الإطار. كان صعبا عليها أن تخرج من دائرة المتعة التي صنعها مونيه. ولم تغادر وقد اكتشفت الرسم باعتباره “موسيقى داخلية".

لقاء في المنطقة الحرجة

وإذ تعرفت على رسوم اللبناني شفيق عبود الذي سبقها في التعرف على مونيه فإنها صارت على يقين بأنها ستخرج بنتائج شخصية. وهذا ما حدث فعلا. لقد عمل عبود متأثرا بمدرسة باريس على أن يصل إلى نتائج تجريدية خالصة مستفيدا من كثافة السطح لدى مونيه وتعدد طبقاته. أما فاطمة الحاج فقد ظلت محافظة على صلة بالطبيعة تجعلها قريبة دائما من المشاهد التي صورها الرسام الانطباعي متأثرا بحساسية معلمه البريطاني وليام تورنر.

الكائنات التي تصدر عنها أصوات بعيدة، تلاحقها الحاج، تشم روائحها بحثا عن العطر الفريد الذي يناسبها. ما تفعله الحاج حين ترسم يفسر ظهور صور للبشر على سطوح عدد من لوحاتها

رقيقة وعذبة وشفافة رسوم الحاج غير أنها في الوقت نفسه عميقة وغامضة. هي رسامة مخلصة للطبيعة غير أنها تسعى إلى النظر إلى الطبيعة باعتبارها مصدرا لممتلكاتها الشخصية. فهي ترسم الطبيعة لتستولي عليها وتطل من خلالها على عالمها الشخصي.

لا يكفي الرسم بمتعة هدفا لها بل إنها ترنو بعينيها إلى مناطق تنقل من خلالها دهشة اللقاء بالطبيعة الساحرة إلى عيني المتلقي فيكون التلقي هو الآخر عملية ممتعة. الرسامة والمتلقي يلتقيان عند نقطة يشكل سحر الرسم مركزها. تلتقي الحاج متلقيها في منطقة حرجة تكون الطبيعة فيها مصدر إلهام بصري داخل الرسم وخارجه. بمعنى أنها تحث المتلقي على التفكير بالطبيعة بطريقة مختلفة.

اللون غابتها

ولدت عام 1953 بالوردانية الشوف. بدأت دراسة الرسم في كلية الفنون الجميلة ببيروت، ثم أكملتها في لينينغراد وحازت عام 1985 على جائزة بيكاسو بمدريد وكانت قد انتقلت إلى باريس.

تقول “لم أخطط يوما لدراستي. كنت أهوى العلوم الطبيعية واعتقدت أنني ذاهبة نحو الطب ولكن الإمكانات المادية المتواضعة لأهلي حدت من طموحي في هذا الاتجاه". ذلك اعتراف ستكون له قيمته على مستوى الكشف عن أسباب نزعة الفنانة الطبيعية. وفي ذلك يمكن القول إن الحاج تقف قريبا من المزاج الفرنسي في الرسم فما الذي تعلمته من مرحلة دراستها السوفييتية؟

لقد تعلمت الحرفة والانضباط. وهما ما لم تتمكن من تعلمهما أثناء دراستها في لبنان في ظل الفوضى التي مهدت للحرب اللبنانية. ومنذ أن تعرفت الحاج على الحياة في مرسم خاص بها وقد حدث ذلك في وقت مبكر من دراستها عُرفت بغزارة إنتاجها وهو ما يسر لها إقامة معارض كثيرة في مدن عربية وعالمية ربما كانت أهمها تلك المعارض التي أقامتها في صالة كلود ليمان بباريس.

لوحات الحاج تجعل المشاهد يزعم أنه يرى الطبيعة ولا يراها
لوحات الحاج تجعل المشاهد يزعم أنه يرى الطبيعة ولا يراها

تنتمي الرسامة إلى القلة المرحة المتفائلة التي يشكل وجودها كسرا للكآبة التي يعاني منها الرسم في العالم العربي بسبب سوء فهم وقع فيه الرسامون حين ظنوا أن المرح يسيء إلى موقفهم من الحياة ويقدمهم بطريقة لا تليق بهم.

في النظر إلى رسوم الحاج هناك الكثير من الشعور بأن الحياة جميلة وممكنة وقابلة للتجدد. تعبّر الفنانة عن ذلك التجدد من خلال إشراقة لونية تتجدد مع كل عمل من أعمالها.

لقد تعرفت على اللون من خلال شغفها بأعمال الانطباعيين الفرنسيين وبالأخص رسوم كلود مونيه في مرحلته الأخيرة حين قام برسم لوحاته الكبيرة التي صور من خلالها الزهور المائية.

لم تكن الانطباعية هي ضالتها بقدر ما سحرتها تجربة مونيه اللونية. وهي تجربة يمكن اعتبارها التمهيد الأكثر تماسكا للفن التجريدي. كان اللون هو الهبة الطبيعية التي رغبت في الاستيلاء عليها. ذلك ما نجحت في تحقيقه.   

حين أقول الطبيعة إنما أقصد تأثيراتها. ذلك مؤكد بالنسبة لفاطمة الحاج. فالطبيعة غالبا ما لا تظهر بشكل مباشر في لوحاتها. وحين ترسم مشهدا طبيعيا فإنها تكتفي بجزء منه. ذلك الجزء الذي تحاول الرسامة من خلاله أن تذكر بالطبيعة باعتبارها المصدر الصامت للإلهام.

في مواجهة لوحات الحاج يمكنك أن تزعم أنك ترى الطبيعة ولا تراها. الفتنة التي يشعر بها المرء هي فتنة الرسم وهو يستدرج مواقع الجمال في مشهد يتم تذكره ولا يُرى. إنه المشهد العصي على النقل بسبب ارتباطه بطريقة تلقيه من قبل الرسامة. بمعنى أن الرسامة تجري تغيرات على المشهد داخل مخيلتها وهو ما يؤهلها للقول إنها اخترعت كل شيء. كل ذلك ينطوي على سر هو أن الحاج ترسم الطبيعة بمزاج أنثوي.

بمزاج أنثوي ساحر

فتنة الرسم
فتنة الرسم

"هل ترى بسبب ذلك المزاج شيئا مختلفا؟” ذلك ما يحدث غالبا بسبب اختلاف المعاني. فالمرأة لا تمر بالطبيعة بطريقة سطحية. إنها تنصت إلى أصواتها كما لو أنها تلاحق الكائنات التي تصدر عنها تلك الأصوات وهي تشم روائحها بحثا عن العطر الفريد الذي يناسبها. ما تفعله الحاج حين ترسم هو شيء من ذلك القبيل. وهو ما يفسر ظهور صور للبشر على سطوح عدد من لوحاتها. وليس صحيحا القول إن تلك الصور إنما تشير إلى تحول الرسامة عن الطبيعة. إنهم نتاج صلة عميقة عبرت عنها الرسامة ذات مرة من خلال أحد معارضها وهو “موسيقى داخلية".    

"بساطة الطبيعة تجعلني ألجأ إليها فهي تؤأم روحي، معها أتعلم وأرتقي. تتغير الأماكن وروحها واحدة، تعطيك الأمان بتواضعها ربما وربما بالتعجب من عظمتها. ولكن الأكيد أنها الحضن الأكثر أمنا. هي التي تسحب مني الطاقة السلبية التي تنتابني من حزن وتعب وغضب". هذا ما كتبته الحاج في دليل معرضها الأخير “وهيك كانت الأيام” الذي أقامته في الدوحة وهو المعرض الذي لم يره الجمهور مباشرة بسبب أزمة كورونا.

أجابت الحاج على سؤال يتعلق بروح التفاؤل التي تسود لوحاتها في عالم يغص بالألم والشقاء والقسوة بسبب ما يعيشه من حروب. ولكنها في الوقت نفسه لخصت تفاصيل علاقتها بالطبيعة وهي التي تحن إلى حدائق المدن التي تغادرها كما حدث لها مع باريس.

الفنانة هنا تكشف عن أن الطبيعة لم تشكل بالنسبة لها مصدر إلهام بصري فحسب بل هي أيضا مصدر علاج روحي. وهي حين تنقل تجربتها الشخصية إلى المتلقي إنما ترغب في أن يتعلم منها طرقا في النفاذ إلى الطبيعة لتكون سندا له من أجل أن يكون إيجابيا في التعامل مع تحولات الحياة.

تضيف الفنانة “تظهر لوحاتي وكأنني أعيش في عالم ملؤه السعادة. ولكن الحقيقة أن ارتقائي مع الطبيعة جعلني أرى الأمور في حجمها الطبيعي. وفي بعض الأحيان أرى كم هي صغيرة مقارنة مع ما حولها من طاقات إيجابية”.

في كل لوحة من لوحاتها تفتح الحاج حدائقها لليائسين والمعذبين والعشاق المهجورين لكي يتعلموا الدرس الخالد من الطبيعة. التفاؤل الذي يحمله التجدد معه لكي تستمر الحياة.

الطبيعة تتحول إلى مصدر علاج روحي
الطبيعة تتحول إلى مصدر علاج روحي

 

9