إيمانويل بوتّاتسي غريفوني يطرد الفلاسفة من الأدب

الفلسفة الحقيقية هي الرياضيات والشعر الحقيقي هو المادة.
الأحد 2020/08/23
الشعر يمكن أن يساهم في تحرير الشخص

إيمانويل بوتاتسي غريفوني، شاعر إيطالي من طراز خاص، رقيق ونزق، سريع البديهة، عندما يتحدث عيناه تجولان في مرآة محدثه، وفي مرايا أخرى غير منظورة، وتشعان بالبهجة، وقد أفعمتهما بالحيوية تلك الضحكات المرحة المتلاحقة التي ينهي بها كل جملة من كلامه، لكأنه عندما يتلفظ بالكلمات كان يكتشفها مع سامعه ويتأمل فيها كلمة كلمة، كما لو كان هو نفسه، في تلك المحادثة، شخصاً آخر. في هذا الحوار معه نحن في رحلة مع المسارب والخلايا المعرفية للشاعر، أكثر مما نحن في رحلة حول كتابة الشعر في ذاته، وكفى. فالشعر، ولكأن الشعر، في عرف بوتاتسي غريفوني إنما يتحدر خلال رحلة الشاعر مع حواسه وخيالاته عبر تلك الشبكة الذهبية للمعرفة الإنسانية، وانطلاقا من العلامات التي جرح بها الإنسان الجغرافيا بالوقائع التي أهملها التاريخ. لن أصادر على القراء فحوى هذا الحوار المتدفق الغني بالأفكار والتصورات، لشاعر إيطالي يعتبر مصادفة لقائه في ميلانو ذات أمسية بثلة من الشعراء والكتاب العرب المهاجرين، فرصة ثمينة لعبور المرآة وصولا إلى كينونة الآخر بلحمه ودمه وخيالاته، وموعداً افتتح معه صفحة جديدة في حياته كشاعر. أخيراً لا بد أن أبدي شكري للروائي السوري بالإيطالية يوسف وقاص الذي قام بترجمة نص الحوار ونماذج من شعر الشاعر إلى العربية.

الجديد: في شعرك ميل لخلق تفاعل من نوع مّا بين الحسي والفكري من خلال تصادم عناصر تنتمي إلى هذا وذاك. هناك بالتأكيد أثر ما لدراستك الأكاديمية وللبعد الفلسفي والسيكولوجي على خياراتك الشعرية.. ولكن كيف توازن بين خيارات من طبيعة صارمة “للأكاديمي” بإزاء حرية الشاعر وانفلاتاته؟

غريفوني: سأستعين بالشاعر صموئيل تايلور كوليردج، عندما سُئل عن سبب حضوره الكثير من دروس الكيمياء، فأجاب “لزيادة احتياطي من المجازات”. إن الاستجلاء العقلاني للواقع هو تحديد للواقع نفسه من خلال تفاصيل جديدة وصور جديدة. يعيش الشعراء، مثل جميع البشر، في نهاية المطاف، في الواقع. ومن الواقع يمكنهم فقط البدء في تأليف أعمالهم.

لطالما كنت منذ طفولتي، منجذبًا إلى العلم. ولطالما عشت هذا الانجذاب بطريقة قوية، وكان – كما هو الآن – إذا جاز التعبير، نوعًا من الهوس الشعري، حيث تتداخل العناصر الحسية للعالم مع شكلها العقلاني. عندما كنت طفلاً، جذبتني النجوم وعلم الأحياء بشكل خاص، وقبل كل شيء علم الأحياء البشري.

بعد سنوات عديدة، عندما كنت على وشك التخرّج في الفلسفة، بدأت في الاهتمام بفلسفة الذكاء الاصطناعي والعمل في مختبر تابع لمجلس البحوث الوطني الإيطالي، باقتناع عميق من جهتي بأنه فقط من خلال مسار بحث عقلاني، كان بإمكاني تطوير حدسي بشكل أفضل لفهم جانب يصعب التعبير عنه، إن لم يكن في الشعر، وهو ما أسميه “ظلال الواقع”، مكان يلتقي فيه العقلاني وغير العقلاني.

اللحظة الاستثنائية

الجديد: قلت لي إن ارتباطك بصداقات مع شعراء وكتاب عرب ينتمون إلى مصر وفلسطين وسوريا وربما بلدان عربية أخرى، كانت موعدا لانتباهات مهمة مكنتك من أن تطلّ على نفسك كشاعر إيطالي من زوايا جديدة كلية.. هل كان هذا الموعد مدخلا لمراجعة من نوع فكري؟ أم من زوايا تتصل بالمغامرة الشعرية؟

غريفوني: كان لقائي عَرَضِيَّاً تمامًا. ذات مساء في شهر مايو قبل عامين، كنت قد قصدت مع شريكة حياتي في ذلك الوقت مطعماً لطيفاً في الهواء الطلق في ميلانو. بغتة بدأت تمطر، نهضنا للبحث عن مائدة محمية، الطاولة الوحيدة التي كان فيها مكانان شاغران كانت تلك التي وجدت حولها ثلاثة شعراء وكاتبين: خالد سليمان الناصري، عماد الأحمد، غياث المدهون، يوسف وقاص وحسن بلاسم. بالنسبة إليّ، لم تكن هناك أيّ أهمية على الإطلاق من أيّ بلاد ينحدرون، فلسطين، سوريا، العراق…، كنت مهتمًا بدلاً من ذلك بما يقولونه، في الشغف الذي ينبث من أحاديثهم، وقبل كل شيء، جوّ الاحتفال والصداقة الذي كان يسود بينهم. كل هذا أصبح مصيرًا، كما أعتقد، أيضًا بسبب كل ما حدث لي من قبل، أثناء تأهيلي ونشاطي الفكري. لقد قضيت سنوات على اتصال بالفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء الرياضيات والمهندسين وعلماء الكمبيوتر.

ثم لسنوات عديدة كنت قد ابتعدت جزئيًا عن تلك البيئة لتعميق بحثي الأدبي. قبل سنوات عديدة كنت قد اقتربت أيضًا من العالم الأدبي الإيطالي، لكنني شعرت ببعض التعب. أتحدث هنا عن السنوات الأولى من عام 2000، سنوات صعبة من وجهة نظر سياسية وثقافية. إنما في ذلك المساء، شعرت أنه لم يكن هناك أيّ نوع من التعب في هؤلاء الأصدقاء الجدد. لقد كانت لديهم حيوية دافقة، وهو بالنسبة إليّ مكون أساسي للكتابة نفسها. أعتقد أنه لا يمكن فعل أيّ شيء في الشعر والأدب، دون تطبيق كمية خطيرة (وأؤكد على هذه الكلمة) من الطاقة في إنتاجها.

لذلك أريد أن أؤكد أنني لم أرغب في تعميق معرفتي بهؤلاء الناس من وجهة نظر أدبية وشخصية لأنني متعطش للإيكزوتيكي (تُظهر دراساتي ذلك: أنا لست مستشرقًا). صحيح أن إيطاليا بلد متأثر جدًا في هذه الفترة بالشعر الأميركي وقليل جدًا بالشعر العربي. أدركت على الفور أن هذا الاتصال الفريد بهذه الثقافة كان يمكن أن يجعل مخيلتي أكثر خصوبة. لكن اهتمامي كان ولا يزال دائمًا منصبّاً على الأشخاص المحددين أمامي. شعراء وكتاب ينبضون بالحياة، مع أفكار تتدفق باستمرار، خاصة مع الإحساس العميق بالسخرية والطعم الفطري للاستفزاز، حتى لو لم يكن غاية في حد ذاته. باختصار، كانوا الأشخاص الذين أبحث عنهم.

هذا لا يعني أنني لم أحاول القراءة والتوثيق بنفسي، وكذلك البدء بتعلم اللغة العربية. لا يمكنني، في هذه الحالة، إلا أن أذكر البروفيسور وائل فاروق من الجامعة الكاثوليكية في ميلانو، الذي كان وما زال عوناً كبيراً لي في هذا المجال. إنني أدرك أن هذه الدراسة بأكملها كانت وستظل طريقة لإثراء إمكانياتي التعبيرية، أكثر من إيجاد طريقة للحديث عن ماهية العالم العربي أو ما يعنيه هذا العالم. لا أعرف ما هو العالم العربي. إنه سؤال لا يهمني. ما يهمني حقًا هو ما يقوله الأصدقاء الذين أتفاعل معهم حيث، في هذه الحالة، هم عرب. أعتقد أن كل ثقافة تحفّز طريقة معينة للتعبير عن نفسها على حساب ثقافة أخرى. بهذه الطريقة، يتم تأسيس التعليم بشكل عام. حتى في شكل التعليم الذي يعطى للأطفال. يتم القيام ببعض الأشياء، وتهمل أشياء أخرى. كل ثقافة ترسم حدودها، وبالتالي يمكن أن يحدث أن نوعاً معيناً من العمل مجاني في سياق ثقافي معين، ومحدود في سياق آخر. هنا، أعتقد أن أهمية التبادل الثقافي تكمن في هذه النقطة على وجه التحديد، ليس لإنشاء جسور بين الثقافات المختلفة، ولكن لاكتشاف، من خلال ثقافة مختلفة، أن هناك أشياء معينة في تلك الثقافة الأخرى ممكنة.

التناقض والمغادرة

أشارككم خوفكم من الشعبوية والقومية والفاشية من جهة، والشمولية التافهة من جهة أخرى
أشارككم خوفكم من الشعبوية والقومية والفاشية من جهة، والشمولية التافهة من جهة أخرى

الجديد: سأعف عن التعليق على إشارتك إلى شخصي أو شعري، وإلى لقائي بك في أمسية رائعة، وأسأل: هل تعتبر أن الشعراء، إلى أي ثقافة انتموا، هم مجتمع متمايز لكونهم يقيمون في اللغة أكثر مما هم يقيمون في الأرض، وإن هذه الخصوصية في الانتماء إلى اللغة (وهي أرض علوية) تجعلهم أكثر انفتاحا على الكينونة البشرية وأعمق اتصالا بالوجود بحيث يشكلون هوية كونية مضادة لكل العصبيات الصغرى المنتجة بالضرورة للفاشية والانغلاق الأحمق؟ وعليه.. هل يمكن للشعراء أن يوحدوا العالم خارج القصيدة؟

غريفوني: أشارككم خوفكم من هذين الاتجاهين: الشعبوية والقومية والفاشية من جهة، والشمولية التافهة من جهة أخرى، وأضيف نفاق المجتمعات الرأسمالية التي نعيش فيها. إننا نراها بشكل مأساوي مع العواقب القاسية لاستغلال الهجرة، بالعنصرية أو بالأزمة الناجمة عن الوباء. فإذا ما كانت الحماقات الترامبية (نسبة إلى ترامب) واضحة بالتأكيد، فإن التناقضات التي يحاول فيها الدفاع عن النظام الرأسمالي الذين يحاولون منحه وجهًا جيدًا ربما تكون أكثر شراسة، لأنها تبرر أكثر وجود الترامبية نفسها ولأنهم يساهمون بهذا في الحفاظ على الامتيازات وعدم المساواة. هذه الامتيازات والتفاوتات تترجم إلى حياة مهدورة ومدمرة. ولكن ماذا يعني هذا؟

بالعودة إلى التفكير في الشعر، صحيح أنه يمكن القول إن الشعراء يسكنون اللغة، بالضرورة، أكثر من الآخرين: تأليف الشعر، بالطبع، يقوم على اهتمام باللغة من جميع جوانبها. وصحيح أيضًا أن الشعراء يشعرون أنهم ينتمون إلى مجتمع يرونه متميزًا عن المجتمع نفسه. ولكن علينا أن نكون حذرين. لأن الخطر هو أنه في هذا التمييز عن المجتمع، هناك انفصال عن المجتمع نفسه يُفهم على أنه مكان لتشويه الوقت، والتضحية بالأرواح البشرية.

لكن اللغة التي تسكنها هي أيضًا صحيحة للسياسيين ووكلاء الإعلان والمحامين وجميع المهن التي تعمل فيها اللغة لنظام الاستغلال والاسترقاق. ليس من قبيل المصادفة أن الشعر، في عالم تشويه الزمن، هو ظاهرة أقلية. إنها، مهما كانت خطيرة، لعبة، استخدام مجانيّ جوهريًا للغة، حيث القيود هي فقط تلك التي تفرضها اللعبة نفسها أو المؤلف وليس من قبل نظام، مثل النظام الاقتصادي والسياسي الذي نعيش فيه، بناءً على الكفاءة. في الشعر، من ناحية أخرى، تنطبق الفعالية، أي التنويم المغناطيسي الذي يثير اللغة عندما لم يعد أمرًا أو ضرورة للبقاء.

وبالتالي، فإن الطريقة التي يعيش وفقها الشعراء في اللغة ربما تتيح إمكانية، ضعيفة (نظراً إلى التفاوت في القوى المعنية) لبناء هوية مضادة عالمية. يذكرنا الشعراء بأننا أكياس من اللحم الحيّ، وأننا بحاجة إلى تجربة المتعة والعواطف، وأننا نحتاج إلى اللعب، وأننا بحاجة إلى أن نكون معًا أحراراً. وذلك لأن الشعراء يعارضون اللغة نفسها في أكثر مكوناتها المفاهيمية، وقبل كل شيء في التعبير عن لغة الدولة والشركات والدعاية التي تحوّل الوسائل إلى غايات بدلاً من ذلك. الشعر هو المكان الذي يكون فيه التناقض ضروريًا. كما قال شارل بودلير، هناك قضيتان مهمتان للغاية في مجال حقوق الإنسان “الحق في التناقض والحق في المغادرة”.

الجديد: حدثنا عن كتابك الشعري المقبل.. ما هي الموضوعات الشاغلة أكثر من غيرها في قصائد هذا الكتاب.. وهل يشغلك أن يكون لهذا الشعر اختلافه عن الشعر المكتوب اليوم في الإيطالية.. كيف تنظر إلى خصوصية الصنيع الشعري؟

غريفوني: ديوان الشعر الذي أنا بصدد الانتهاء منه يحمل عنوان “الضوء القاصر”. كلمة “قاصر” مشتقة من الفعل اللاتيني تصغير (Minorare)، وهي كلمة ما زالت تستخدم في الإيطالية، حتى لو كانت غير شائعة الاستخدام. التصغير هو التقويض، التقليل، الإعاقة. في صيغة الماضي، يصبح الفعل قاصرًا، بوظيفة اسم، ويشار به إلى شخص محروم – لأسباب خلقية أو مكتسبة – من بعض الملكات البدنية أو الفكرية أو النفسية. لذلك فإن المعوق هو العاجز لأنه تقوّض إلى حد ما.  أجد هذا الوصف قاسيًا إلى حد ما. لقد بدأت كتابة هذا الديوان في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، في المقهى بالقرب من المنزل الذي عشت فيه حتى وقت قريب جدًا، في ميلانو. مكان غريب، تديره جمعية تتعامل مع تأهيل الأطفال المعوّقين في عالم العمل، حيث يعملون كنُدُلٍ. أولئك الذين يعملون في الجمعية وينسقون بين هؤلاء الأطفال يعتنون بهم باهتمام كبير وكفاءة بالرغم من أنني، للأسف، تمكنت من حضور اللحظات التي عومل فيها هؤلاء الأطفال بقسوة معينة.

الصلابة التي لطالما أذهلتني كثيرًا، وهو الموقف الذي ظهر كثيرًا في مَنْ يجب أن يساعد الآخرين من خلال المهنة، والصلابة التي تمكنت من ملاحظتها، على سبيل المثال، في مشغّلي المنظمات غير الحكومية مع المهاجرين. تقريبا كل واحد من هؤلاء الصبية متعلق بإحدى هؤلاء المنسقات، اللاتي، في لحظة معينة، تعلّقت بهنّ أنا أيضًا. في تلك اللحظة ولد الكتاب. كنت أجلس إلى المنضدة لأراقب وأراقب، شاهدت وكتبت، إذا جاز التعبير، مباشرة. لكنني كتبت من منظور كوني. منظور تأثر أيضًا بحقيقة أنه في ذلك الوقت طُلب مني عقد محاضرة حول فلسفة الضوئيات، وهو موضوع لم أتعامل معه أبدًا بشكل احترافي. لقد أثّرت دراسة الضوء فيّ بعمق. وهكذا ولدت دائرة قصيرة غريبة من الأفكار والأحاسيس: في حين كان يقاطعني أحد هؤلاء الصبية في المقهى لتلقّي الاهتمام أو يربّت على كتفي بحنان، كنت أشعر بسرّ سوء فهم الواقع، وهو واقع شعرت به في تجسيده المطلق.

لذلك أصبح الكتاب انعكاسًا شعريًا لفيزياء الواقع من خلال الضوء، ومع ذلك ليس فهماً فقط بالمعنى الشعري، ولكن أيضًا بالمعنى العلمي والسياسي.

وفيما يتعلق بهذا الأخير، بالمعنى السياسي، يُفتتح الكتاب باقتباس من دنغ شياو بينغ، زعيم الصين ما بعد الماوية، “تجنّب النور، وازرع الظلام”. يشير هذا الشعار إلى استراتيجية الصين بين أواخر السبعينات وأزمة عام 2008. وهي استراتيجية تقوم على بناء هيمنة عالمية تعتمد على الابتعاد عن الأضواء ورفض الدخول في الصراعات المسلحة وبدلاً من ذلك استغلال الوقت لتنمية الموارد والقوى الإنتاجية. بالنسبة إليّ، يعكس هذا الشعار حاجة الدول بشكل عام: الحفاظ على السرية. فقط من خلال هامش معين من السرية تمكّنت الدول من البقاء وهذا ينطبق ليس فقط على الصعيد الدولي، ولكن أيضًا عندما يتعلق الأمر بالسكان أنفسهم. يوجد دائمًا في الدول مكان يخفت فيه الضوء، أي يصبح قاصراً.

يبدأ الكتاب ويختتم بالبعد السياسي، وينتهي خلال أكثر فترات الحجر الصحي قسوة التي مررت بها في ميلانو، أهم مدينة في مقاطعة لومبارديا، وهي المنطقة التي برزت كواحدة من أكثر المناطق تأثراً بالفايروس في العالم. كما أصبح الضوء الأقل هو ضوء السجن المتناقص في منازلنا. الفترة التي قضّيتها معتكفاً مع امرأتين، صديقتين مع بعضهما البعض، كانت إحداهما شريكة حياتي لمدة عشر سنوات تقريبًا. علاقتي مع هاتين المرأتين هي أحد الموضوعات الرئيسة للكتاب، حيث يختلط البعد الشبقي مع فيزياء الضوء، وحيث يتم القضاء على الفلسفة، وهي جوهرية في حياتي، وتستثنى من الكتاب بطريقة وحشية أيضًا. أعتقد أن الفلسفة، ما لم ترغب في صنع فلسفة فنية مثل الفلسفة التحليلية من أصل أنغلوساكسوني، يجب أن تكون انعكاسًا للسياسة من خلال الأدب. هذا، ليس في الشعر، ولكن في النثر، أي كخطاب نقدي.

لذلك هناك محاولة في هذا الكتاب لطرد الفلسفة من الأدب. في الواقع، في نقطة معينة أكتب، في قصيدة لم أدرجها في الكتاب لأنني أعتقد أنه من الصعب للغاية تحويلها إلى لغة أخرى “الفلسفة الحقيقية هي الرياضيات، والشعر الحقيقي هو المادة".

الطفرة المستمرة

تشابه الشاعر والعالم
تشابه الشاعر والعالم 

الجديد: يعتبر ت إس إليوت أن الشعر ليس تحريرا للعاطفة ولكنه وسيلة للتخلص من العاطفة، وأنه ليس وسيلة للتعبير عن الشخصية ولكنه وسيلة للفرار من الشخصية؟ هل تظن أن الشاعر يخلق في الشعر كيانا موازيا لكيانه؟

غريفوني: ملاحظة إليوت هذه، من نواح كثيرة، قريبة جدًا مني. إنها مستقاة من مقالته الشهيرة “التقاليد والمواهب الفردية”، التي نُشرت لأول مرة منذ قرن وعام مضى حيث لا ينسى إليوت في التذكير كيف ينتهي الأمر بتشابه الشاعر والعالم على حد سواء، في عملية نزع الطابع الشخصي. الحقائق التي تحمل طابع السيرة الذاتية الدقيقة التي ذكرتها لا تتعارض على ما يبدو مع اعتقادي، كما يقول إليوت، “إن عاطفة الفن غير شخصية”. في رأيي، فإن نزع الطابع الشخصي يحدث من خلال الصراع (وأعتقد هنا أنني أختلف عما يقوله إليوت) أي التوتر بين منظور شخصي ومنظور سياسي أو كوني، على سبيل المثال. وبالتالي، فإن الواقع الذي تم إنشاؤه ربما لا يكون موازياً لواقع الشاعر، ولكنه ناجم عن هذه القوى المتضاربة. نتيجة يصعب وصفها، وهي ليست مرآة للتجربة الفردية البسيطة. تجاوز هذا، يعني صراحة ما هي رسالتك، وأعتقد أنه خطأ فادح في المجال الفني.

هناك المزيد على ما أعتقد. كما قلت، قد يوفّر الشعر كعمل تحرري، وإن كان ضعيفًا، فرصة لتخيل بُعدٍ اجتماعي تم تحريره للجميع، لكن هذه ليست رسالة من إنتاجي الفني، إنها نشاط الشعر نفسه الذي يمثله.

أعتقد أن الشعر يمكن أن يساهم بهذا المعنى في تحرير هذا العبء الذي هو الشخص. في الغرب، ساهم القانون الروماني بشكل كبير في وصف مفهوم الشخص. مجموعتي الشعرية قبل الأخيرة – التي اخترت منها أربعة نصوص لمجلة الجديد – تسمّى “الشخص الملتبس”، مفهوم قانوني للتشريع الروماني. الشخص غير المؤكد هو، إذا جاز التعبير، أيّ شخص، الشخص الذي ليست لديه حقوق قانونية لأنه غير محدد. على سبيل المثال، ليس من الممكن، في القانون الروماني، نقل الميراث لأول من يصل إلى جنازة الميت، لأن هذا ليس شخصًا محددًا، إنه شخص لا يُعرف من هو وبالتالي هو شخص غير مؤكد.

بعيداً عن التقييمات

الجديد: نكاد لا نعرف نحن العرب عن الشعر الإيطالي إلا القليل. هل لك أن ترسم لنا لوحة للشعر الإيطالي في النصف الثاني من القرن العشرين وفي هذا المطلع من الألفية الثالثة، أسماؤه، اتجاهاته، تطلعات شعرائه، واهتماماتهم اللغوية والتعبيرية؟ وهل يمكننا الحديث عن اتجاه لغوي وتعبيري وجمالي في الشعر الإيطالي مرتبط بجغرافية المتوسط بما يتجاوز حدود إيطاليا في إطلالتها على البحيرة؟

 غريفوني: أطلب الصفح، لكني لا أشعر حقًا بالإجابة على هذا السؤال. تعتمد طريقتي في تناول الأدب بالتأكيد وبشكل أساسي على المقارنة مع أدب اليوم، بما في ذلك اللغة الإيطالية، ولكنها كانت تتميز دائمًا بوقاحة معينة لازمة لكتاباتي. استخفاف مطلق ولكن خاص، أي الذي يشكّل مختبر إنتاجي الأدبي. لذلك لا يمكنني أن أملك، من عدة نواح، مقاربة نقدية أدبية. أبحاثي محددة: قد أكون مهتمًا بالعمل على مؤلف معين، لأنني أجد فيه بنية بمعان ذات صلة بشكل خاص، لكنني لست مهتمًا بمسارات المشهد الأدبي الحالي، المسارات التي يستحوذ عليها العديد من الشعراء والنقاد الإيطاليين اليوم. أعتقد أن ثمة ضعفا ثقافيا في هذا المسار وأن هذا يغذي هامشًا معينًا من الشعر في مجتمع عصرنا. آمل، في الآونة الأخيرة، في الشعر الذي كتبته النساء، والذي أرى فيه الآن قوة تعبيرية مفقودة لدى العديد من الرجال في إيطاليا.

الشعراء يشعرون أنهم ينتمون إلى مجتمع يرونه متميزًا عن المجتمع نفسه. ولكن علينا أن نكون حذرين

الجديد: نحن نعرف أن الشعري موجود في الرواية والرقص والفن التشكيلي والصورة وفيلم السينما وحتى في التفاتة امرأة في الشارع، ولكن ما القصيدة بالنسبة إليك؟ أعني قصيدة الشعر كنظام لغوي وبنية فنية وكيان كلي.. هل ثمة قوام ما يمكن تعريفه ومن دونه لا تكون القصيدة؟

غريفوني: أجيب مرة أخرى أن أحد العناصر المركزية هو الإيقاع. هذا ينطبق بطريقة ملحوظة على جميع أشكال الفن التي تتطور بالتجارب عبر الزمن، مثل الرواية والمسرح والسينما وبالطبع الرقص والموسيقى. في ما يتعلق بالفنون مثل النحت أو الرسم، فإن الموضوع يصبح أكثر تعقيدًا.

 من ناحية أخرى، لا يمكننا إنكار أن الإيقاع موجود أيضًا كظاهرة بصرية. إذ يمكننا العثور داخل اللوحة على مكون إيقاعي أكان ذلك من قبل الشخص الذي يتفحصها، أو في توزيع العناصر البصرية للوحة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، يجب ألا ننسى أن الأعمال التي نتفحصها تحتفظ بآثار نشاط الأشخاص الذين قاموا بإنجازها. يمكننا أن نرى في اللوحة، على سبيل المثال، علامة ضربات فرشاة الرسام: هذه هي الآثار التي نكتشفها من عمله الفني، وكذلك يمكننا تخمين مِشْية حيوان أو فرد من آثار الأقدام التي تركت على الأرض. كل هذا هو حركة، حركة لها إيقاعها الخاص، إيقاع ينقلنا، كما قلت، إلى ذاك العالم الذي أصبحنا ندرك فيه أنفسنا من خلال نشاط الآخرين، حيث ندرك بحدسنا حقيقة أساسية وغامضة تتصل بوعينا.

ينشر بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية

11