انتشار الفساد يقطع الطريق على محاولة التغيير في العراق

الميليشيات الشيعية أصبحت تشكّل طبقة جديدة، أخلاقياتها الوحيدة هي إثراء الذات.
الاثنين 2020/08/03
نفط العراق رمز الثروة المنهوبة

انتشار الفساد وتغلغله في مفاصل الدولة العراقية جعله بمثابة سلطة موازية تمتلك جميع مقوّمات البقاء وممانعة أي محاولة للإصلاح والتغيير ولو وقفت وراءها إرادة صاحب أهم منصب تنفيذي في البلاد؛ رئيس الوزراء نفسه الذي سيكون من الصعب عليه تفكيك منظومة واسعة من الفاسدين يتكامل فيها دور السياسيين النافذين مع سلاح الميليشيات، وهو ما ينطبق على رئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي الذي يبدو في موقف محرج بعد أن رفع من سقف وعود الإصلاح أعلى مما تصل إليه قدراته الفعلية.

بغداد – حملت الاحتجاجات العائدة بقوّة إلى الشارع العراقي مؤشّرا على شيوع حالة اليأس بين عموم العراقيين من إمكانية تغيير الأوضاع السيئة، ورسوخ القناعة باستحالة الإصلاح من داخل منظومة الحكم التي أظهر تقرير حديث تغلغل الفساد داخلها وانتشاره في مختلف مفاصلها، بحيث يصبح حديث رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عن التغيير والإصلاح ضربا من الوهم بغض النظم عن مدى صدق نواياه، وذلك بسبب وجود سلطات موازية قوية ونافذة تسهر على رعاية الفساد وحمايته لأنّه يمثّل ديدن وجود ومصدر حياة لها.

وأورد تقرير لصحيفة نيويورك تايمز تفاصيل صادمة عن المدى الذي وصل إليه الفساد في العراق، حتى أصبحت الفصائل والميليشيات متحكّمة في قطاعات حيوية وتدير وزارات وتحوّل مواردها لمصلحتها، وذلك في غياب تام لقوانين الدولة حتى أنّ أحد الفصائل اعتبر أنّه هو القانون نفسه، وذلك لتبرير استيلائه على مشروع تابع لأحد المستثمرين، وفق ما يورده التقرير الذي أعدّه الصحافي الأميركي روبرت وورث استنادا إلى تجربة عملية في العراق.

وعادت الاحتجاجات مؤخّرا إلى شوارع عدد من المدن الرئيسية العراقية، لاسيما العاصمة بغداد، منذرة بأزمة حادّة للنظام القائم، كون مجيء حكومة الكاظمي يعدّ آخر فرصة لإنقاذ ذلك النظام عبر إدخال إصلاحات عميقة لوّح بها رئيس الوزراء لكنّه بدا عاجزا عمليا عن تنفيذ أي منها كونها تتناقض جوهريا مع مصلحة الطبقة الفاسدة التي توسّعت كثيرا وتمكّنت من الإمساك بدواليب السلطة ومراكز أخذ القرار وتفصيله وفق مصلحتها وفرضه بقوة سلاح الميليشيات المرتبطة عضويا بماكنة الفساد.

روبرت وورث: نهب هادئ تحت السطح المضطرب للحياة السياسية العراقية
روبرت وورث: نهب هادئ تحت السطح المضطرب للحياة السياسية العراقية

ويورد كاتب التقرير قصّة مستثمر عربي استولت كتائب حزب الله، الميليشيا القوية ذات العلاقة الوثيقة مع الحرس الثوري الإيراني، على مشروعه الاستثماري الذي أقامه في مطار بغداد الدولي بالاستناد إلى عقد حكومي وأجبرته على مغادرة العراق تحت طائلة التهديد، حيث قال له أحد عناصر الميليشيا عندما حاول التمسّك بالقانون الذي ينظم الاستثمار “نحن القانون”.

وللفساد في العراق علاقة مباشرة بما آلت إليه الأوضاع من سوء في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، حتى أنّ البلد الذي يعدّ من كبار منتجي النفط ومصدّريه العالميين يعاني أزمة كهرباء حادّة  دفعت المحتجّين إلى الخروج مجدّدا إلى الشارع في ذروة ارتفاع درجات الحرارة، متحدّين قمع الشرطة الذي أوقع ما لا يقلّ عن خمسة قتلى في صفوفهم، لتتسع بذلك الهوّة سريعا بين المواطنين وحكومة الكاظمي.

وعن المتظاهرين الذين يخوضون منذ خريف العام الماضي أعنف انتفاضة بوجه نظام المحاصصة الحزبية والعرقية والطائفية، يقول تقرير الصحيفة الأميركية إنّ أولئك الذين شاركوا في المسيرات ينظرون إلى مجموعات مثل كتائب حزب الله ليس كمجرد وكلاء لإيران ولكن لجزء من طبقة أثرت على حساب شباب العراق الذين تركوا عاطلين عن العمل ومعوزين بأعداد متزايدة باستمرار، بينما انضم بعض قادة الميليشيات إلى صفوف أغنى رجال البلاد، وأصبحوا مشهورين بشراء مطاعم راقية ونواد ليلية ومزارع على نهر دجلة.

ويضيف أنّ الميليشيات أصبحت تشكّل طبقة جديدة، أخلاقياتها الوحيدة هي إثراء الذات. وعلى مرّ السنين أتقنت هذه العصابة العابرة للطوائف الحيل على جميع المستويات من الاحتيال المصرفي إلى الاختلاس من الرواتب الحكومية. ويشبّه التقرير الحياة السياسية في العراق بحرب عصابات قائلا إنّ “سطحها المضطرب يخفي عملا هادئا للنهب، ففي كل وزارة يتم تخصيص أكبر الغنائم بالاتفاق غير المكتوب لفصيل أو لآخر. فلدى الصدريين وزارة الصحة، ولدى منظمة بدر منذ فترة طويلة وزارة الداخلية، ووزارة النفط تابعة لتيار الحكمة.

ويؤكّد التقرير أنّ الزعماء السياسيين الذين يمارسون هذا الكسب غير المشروع معروفون جيدا. بعضهم حلفاء مخلصون للولايات المتحدة، فقد استخدمت عائلات البارزاني والطالباني في إقليم كردستان سيطرتها على عقود تلك المنطقة وبنكها المركزي لتصبح غنيّة للغاية. أما رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وحلقة المقربين منه فما زالوا يسجلون حضورا على الساحة السياسية العراقية. ومقتدى الصدر رجل الدين الشيعي الزئبقي هو عراب آخر يشتهر أتباعه بتقاضي عمولات ضخمة.

ولقد كان من المفترض أن يتلقى النظام العراقي الفاسد هزة عام 2014، عندما استولى تنظيم داعش على المناطق والمدن، لكن عوضا عن ذلك كانت النتيجة الرئيسية هي ظهور سلالة جديدة من الطفيليات: الميليشيات التي ساعدت في هزيمة داعش والمعروفة مجتمعة باسم الحشد الشعبي.

والحشد هو اتحاد فضفاض لجماعات مسلحة بعضها موجود منذ عقود. وفي عام 2016 اعترف رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بالحشد كجزء من قوات الأمن في البلاد وأصبح منتسبوه يتقاضون رواتب منتظمة مثلهم مثل الجنود والضباط في الشرطة.

ومن بين أقوى تلك الفصائل، كتائب حزب الله المحاطة بالغموض على الرغم من مكانتها البارزة. إذ يقول مايكل نايتس المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الذي تابع الفصيل منذ تأسيسه “لا نعرف شيئا تقريبا عن القيادة”. وقد بنت الكتائب إمبراطورية اقتصادية من خلال شق طريقها إلى الشركات الشرعية والعقود الحكومية. ومن بين مشاريع الميليشيات الأقل شهرة والأكثر إثارة للقلق تقدمها التدريجي للسيطرة على مطار بغداد.

الكاظمي قليل الحيلة بمواجهة هذا التحدّي الكبير
الكاظمي قليل الحيلة بمواجهة هذا التحدّي الكبير

وقد بدأ الأمر قبل عدة سنوات عندما بدأت كتائب حزب الله وميليشيا عصائب أهل الحق المدعومة بدورها من إيران في وضع العمال الموالين لهما في جميع أنحاء المطار بشكل خفي وفقا لمسؤول كبير.

وفي أواخر أكتوبر الماضي حصلت شركة هي واجهة لكتائب حزب الله على عقد مدته 12 عاما في مطاري بغداد والبصرة تبلغ قيمته عشرات الملايين من الدولارات سنويا، على الرغم من أن الشركة كان عمرها شهرين فقط ولم تحصل على الاعتماد والترخيص اللازمين. وليس مطار بغداد سوى واحدة من البوابات الاقتصادية التي تسيطر عليها الميليشيات الآن. فقد استخدمت تهديد داعش لتثبيت أقدامها في معظم الحدود البرية للبلاد وسيطرت على معظم التجارة عبر الموانئ الجنوبية للعراق لأكثر من عقد من الزمان.

ولا يخلي الصحافي وورث الولايات المتّحدة من المسؤولية عما آل إليه العراق من فساد عظيم قائلا في تقريره إن واشنطن متورطة بشدة في كل هذا، ليس فقط لأن غزوها دمر البلاد بل لأنها تقدّم الأموال التي يستفيد منها الفاسدون، إذ لا يزال الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك يمد العراق بما لا يقل عن 10 مليارات دولار سنويا بالعملة الصعبة من مبيعات النفط. وقد تم تمرير الكثير من ذلك إلى البنوك التجارية ظاهريا لتغطية الواردات لكنّ العملية اختطفتها منذ فترة طويلة عصابات غسل الأموال.

ويستدرك كاتب التقرير بالقول ربما تكون إدارة ترامب قد صدمت الميليشيات العراقية بالاغتيال غير المتوقع في يناير الماضي لقاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني الذي قتل في قصف قرب مطار بغداد الدولي بصحبة أبومهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، لكن الوكلاء الإيرانيين مثل كتائب حزب الله لا يبدون قلقا مفرطا، فهم يعرفون أن الرئيس ترامب ليس لديه شغف كبير بالحرب خاصة في ظل جائحة كورونا، وأن الأولوية القصوى هي الحفاظ على نظام عراقي يتم فيه بيع كل شيء.

وعن حظوظ مصطفى الكاظمي في إحداث قدر من التغيير، يقول تقرير نيويورك تايمز إنّ جائحة كورونا دفعت العراق إلى حافة أزمة وجودية. وأدى الانهيار العالمي للطلب على النفط إلى انخفاض الأسعار بشكل تاريخي ما أدى إلى صدمة رهيبة لبلد يعتمد اقتصاده بالكامل تقريبا على عائدات النفط، الأمر الذي يوفّر فرصة استثنائية لرئيس الوزراء الجديد لمواجهة أكثر مشاكل بلاده صعوبة، حيث يمكن اعتبار الفساد قضية حياة أو موت تحتّم الاختيار بين إطعام الشعب أو إثراء اللصوص الحاكمين.

لكنّ الكاظمي قليل الحيلة بمواجهة هذا التحدّي الكبير لا يمكنه، بحسب التقرير ذاته، أن ينجح ما لم تغتنم الولايات المتحدة هذه الفرصة لإلغاء بعض الأضرار التي ألحقتها بالعراق ولخلق قضية مشتركة مع المتظاهرين الذين يأملون بإعادة بناء بلدهم على أساس جديد.

3