قصة مُتخايلة تجري أحداثها في مدينة بيروت

الفنان المحترف عليه الخروج من كبوته وتثمين الوقت الذي يملكه والتحول إلى فنان ما بعد وباء كوفيد- 19.
الأحد 2020/07/05
عودة للنفس (لوحة: نور بهجت المصري)

“تحولت مدينة بيروت إلى مدينة  أشباح. وأقفلت المكاتب والمؤسسات. ولم يعد هناك مجال للقاء الآخرين بسبب فرض التباعد الاجتماعي تفاديا لانتشار المرض. حتى السير في الشوارع أصبح شبه مستحيل إلا للضرورات المعيشية.

وعلمت ميادة الموظفة في دار التعليم المدرسي، أنها اليوم أكثر من أي يوم سبق قادرة بأن تقبض على فرصتها هذه بكل ما أوتيت من قوة.

هرعت كالفار من سجن جائر إلى الغرفة /المرسم التي أمضت وقتا في توضيبها والتأمل بحرقة في زواياها دون أن يتسنى لها الوقت الكافي للبقاء فيها.

سيطر عليها فرح كبير، لم يخلُ من الشعور بالذنب، اليوم الذي أن أدركت  فيه أن الوقت “المُهدى” لها سيكون طويلا ومتاحا ومباحا لها ولشغفها الفني. قالت في نفسها “الكوكب بأسره يتآمر معي! يجب أن أكون عند حسن ظنه واستغل كل دقيقة منهوبة من الأيام العادية”.

دخلت إلى المرسم ودون أدنى التفاتة إلى كل ما استهلك أيامها الماضية، لا بل عمرها من روتين ومهمات لا تعني لها شيئا سوى أنها تؤمن لها ولأهلها حياة كريمة. مهما كانت في أحيان كثيرة، على الأقل بالنسبة لها، مملة حتى الشقاء ولكنها استطاعت بفضلها أيضا أن تقتني ما أرادت من ألوان وحاجات فنية.

أمضت ميادة أكثر من ثلاثة أشهر في الرسم نهارا والتأمل في ما أنجزت خلال قطع من الليل. وكل هذه “الاحتفالية” رافقها الاستمتاع بعطر المواد اللونية الذي لم يخفت تماما حتى مع فتح مصراعي الشباك الواسع إلى فضاء أزرق خال من أبنية الباطون ومُتأهل بكل نسمة هواء أو هبوب ريح.

عطر اشتاقت إليه كثيرا إذ سكن روحها منذ أن كانت طفلة ولم يغادرها ولا للحظة واحدة حتى خلال اجتماعات العمل المملة والروتينية حيث كانت أحيانا كثيرة تتحلل وتتلاشى أصوات المتكلمين في أذنيها عن غير قصد.

مرت ثلاثة أشهر على هذا المنوال حتى انتهاء فترة الحجر الصحي وبدء عودة الحياة الطبيعية إلى المدينة.

لا شك بأن ميادة كانت سعيدة بذلك ولكن أيضا مع قليل من التوجس والخوف من أن يُسلب منها مجددا الوقت الثمين الذي استطاعت أن تهبه لفنها.

لكنها عزمت أن تبذل جهدا أكبر للمحافظة على أكبر مساحة زمنية ممكنة مما أعاده إليها سبات الكوكب على حين غرة.

 كانت هذه نيتها لكن هل ستستطيع فعلا حين تعود وتيرة العمل في “در التعليم” إلى سابق عهدها؟

بالنسبة إليها ولكل فنان غير متفرغ يبقى الرهان على أن تستمر في “اختراع” وقت لكي تمارس فيه تطوير فنها وقد اسطفته من بين كل الاهتمامات لكي يحتل أوقات فراغها، “فراغ” ملتبس المعنى، إذ هو أثمن ما استطاعت إنقاذه من رتابة يومها المتعب خلف مكتب أو أمام ورشة عمل مرهقة نفسيا أو جسديا، استطاعت عبرها أن تؤمن لها قوتها اليومي وتَرَف صياغة أعمال فنية خارج منطق سوق الفن لأنها متحررة من حاجة بيعها لما تنتج من أعمال فنية.

وهل سيستطيع الفنان المحترف هو الآخر الخروج من كبوته إلى تثمين جديد لاتساع وقت الذي يملكه والتحول إلى فنان ما بعد وباء كوفيد – 19 بعزيمة جديدة ونظرة مختلفة إلى ذاته وإلى العالم من حوله؟ عالم يحتاجه اليوم أكثر من أي زمن مضى.

14