مسلسل "لما كنا صغيرين".. عمل متميز يسقط في فخ عقلية الانحياز للبطلة

الفنانان محمود حميدة وخالد النبوي وجها لوجه في تجربة ملؤها التشويق والإثارة.
السبت 2020/06/27
سيناريو ثريّ يعالج العديد من القضايا الاجتماعية

جذب مسلسل “لما كنا صغيّرين” الانتباه مع إعادة عرضه للمرة الثانية بعد الموسم الرمضاني، بعناصر تميّز افتقدها الكثير من الأعمال الدرامية، من مساحات واسعة للتشويق وحبكة درامية جيدة تثير الشغف حول المتهم الحقيقي في جريمة قتل، والابتعاد كثيرا عن التطويل الممل الذي أصبح سمة مسلسلات الثلاثين حلقة.

القاهرة - يكشف مسلسل “لما كنا صغيرين” نمطا من التغيّرات الفكرية للجماهير التي باتت ترفض الذاتية والانحياز في كتابة العمل الدرامي لصالح فنانة معينة على حساب الكبار من ذوي القدرات التمثيلية الخاصة، فتصدير العمل كمشروع خاص تم بناؤه لصالح بطلته ريهام حجاج، عبر المقاطع الدعائية له والإعلانات المصوّرة في الشوارع، خلق نفورا جماهيريا من متابعة عرضه الأول في رمضان، رغم امتلاكه الغالبية العظمى من عناصر الدراما الجيدة.

واتسم المسلسل، الذي لقي إشادة من النقاد والجمهور مع إعادة عرضه مجدّدا على بعض الفضائيات المصرية، بمساحات كبيرة من التشويق على مدار حلقاته الثلاثين، مع تتبّع قصة خمسة أشخاص تخرّجوا من الجامعة الأميركية ودفعت بهم الظروف إلى العمل في شركة دعاية وإعلان يمتلكها رجل الأعمال سليم (الفنان محمود حميدة)، والتنقل المستمر بين شخصياتهم لمعرفة كيف يغيّر الزمن النفوس.

ينطلق المسلسل في حلقاته الثلاث الأولى من سلسلة تعقيدات لحسن (الفنان نبيل عيسى) الذي يطالب نهى (الفنانة نسرين أمين) بالإجهاض حتى يتزوجها لكنها ترفض، وفي الوقت ذاته يدبّ صراع بين دنيا (الفنانة ريهام حجاج) ويحيى (الفنان محمود حجازي) حول طلبها الطلاق بسبب تعاطيه المخدرات، وتصل ذروة الأحداث إلى العثور على دنيا مقتولة بمنزلها، واتهام حسن بقتلها.

تمهّد القصة لدخول أبطالها الأساسيين المحامي البارع ياسين الجمال (الفنان خالد النبوي) الذي يجد شقيقه حسن متهما في قضية قتل ويستغلّ مهنته الأولى قبل المحاماة كضابط شرطة في محاولة إثبات براءته، وحول سليم (الفنان محمود حميدة) صاحب الشركة التي تضمّ أصدقاء الماضي وأعداء الحاضر والمتهمين والشهود في قضية القتل، تدور  الريبة من الدقائق الأولى.

ماجدة خيرالله: السيناريو استطاع رسم بطولة جماعية لا تركز على شخصية معينة
ماجدة خيرالله: السيناريو استطاع رسم بطولة جماعية لا تركز على شخصية معينة

وتميّز العمل بمخالفته نهج منافسيه من الأعمال الدرامية بتحاشي التطويل المبالغ فيه إلاّ في مشاهد قليلة مع الحفاظ على عناصر التشويق في غالبية الحلقات، وصولا إلى الحلقات قبل الأخيرة التي كشفت فيها ملامح قصته بتورّط دنيا في رسم حوادث القتل بالعمل منذ البداية على التخلص من والدها، وصديقتها نهى التي هدّدتها بمعرفتها بجرائمها، وانتقامها من حسن الذي أصابها بالعقم عبر الاتفاق مع إحدى الممرضات، ومحاولتها قتل ياسين باستدراجه إلى بيتها، وصولا إلى إعدامها.

أفرط المخرج محمد علي كثيرا في تعزيز صلاحيات ياسين وترسيخ صورته كمحام لا يشقّ له غبار، دون إظهار لمحات تعزّز تلك الميزة، وتؤكّد تمتّعه بقدر من الذكاء أو سرد قضايا سابقة حسمها بالدهاء، وفي الكثير من المشاهد كان يفرض سطوته على وكلاء النيابة وينحّيهم جانبا ويتولىّ استجواب المتهمين، وتحريك الشرطة التي تحصلت معه مرارا على معلومات خاطئة، لكنها لم تمتعض من مواصلة السير وفق خططه لإثبات براءة شقيقه، في مخالفة للواقع والمنطق.

جاءت بعض المشاهد مكرّرة بصورة مثيرة كالحوار الثنائي بين ياسين ووالدته بمجرّد فتحه باب منزله، والذي لا يخرج عن أربع عبارات محفوظة ومجترّة تذكّره فيها بأن شقيقه في السجن وتعنّفه على عدم وصوله إلى حل، وترديده نفس الوعد المعتاد بإخراجه من الورطة، ينسحب الأمر ذاته على شخصية صافي عبدالمولى (الفنانة رولين القاسم) التي تم حشرها في العمل فقط من أجل إطالة قائمة الاشتباه في المتورطين بحوادث القتل.

واتسم الإخراج أحيانا بعدم المنطقية مثل الزج بريهام حجاج ونسرين أمين في مشهد لهما من الماضي في مرحلة الثانوية العامة بشكل وطريقة تصوير لم ينجحا في الوصول بهما إلى المستوى العمري المطلوب، لتظهرا كسيدتين في ملابس لا تتناسب مع مراهقتين، وحوار حول المستقبل شديد العقلانية لا يناسب عمرهما.

على المستوى التمثيلي، اتسم أداء ريهام حجاج، في ثاني بطولة درامية لها بعد مسلسل “كارمن”، بالافتعال أحيانا وإظهار ردود أفعال لا تتناسب مع الأحداث فتبالغ في الحزن لمواقف لا ترتبط بها ارتباطا مباشرا، بينما كان أداء نسرين أمين ميلودراميا كالمعتاد وبطريقة واحدة للحديث أو حركات الوجه بصرف النظر عن الدور. فلا يفرق كثيرا تجسيدها لشخصية امرأة شعبية أو راقية، كما أضاع نبيل عيسى تفاصيل شخصية حسن بانفعاله المستمر الذي لا يتماشي مع الصورة المرسومة له كانطوائي عاش في كنف أم وشقيق أكبر حملا عنه أعباء الحياة.

ويعتبر العمل مباراة تمثيلية من طابع خاص بين محمود حميدة وخالد النبوي، في أول تعاون بينهما منذ تجربة فيلم “المصير” مع المخرج الشهير يوسف شاهين قبل ربع قرن، وأصبحا عنصري الجذب للعمل وليس بطلته بخبرتهما الطويلة في كيفية التنقل بين مشاعر السعادة والقلق والخوف والفقد والشغف والهزيمة والنجاح.

أداء ريهام حجاج اتسم بالافتعال أحيانا وإظهار ردود أفعال لا تتناسب مع الأحداث، فتبالغ في الحزن لمواقف لا ترتبط بها ارتباطا مباشرا
أداء ريهام حجاج اتسم بالافتعال أحيانا وإظهار ردود أفعال لا تتناسب مع الأحداث، فتبالغ في الحزن لمواقف لا ترتبط بها ارتباطا مباشرا

وأجاد حميدة التعاطي مع التنقلات النفسية لشخصية سليم وتعقيداتها من رجل الأعمال المرح الذي لا يبالي، مرورا بالمتحدّي الواثق في قدرته على الالتفاف على القانون، ونهاية بالقلق نتيجة خشيته من اقتراب دوائر الاتهام ضده. بينما برع النبوي في تصوير الصراع النفسي داخل ياسين الذي يُصدّر الثقة للجميع، رغم خوف يملؤه من الداخل في ظل تعقّد قضية شقيقه وتشابكها وضغط والدته المستمر.

وتقول الناقدة الفنية ماجدة خيرالله إن العمل كان من القلائل التي جذبت أنظار النقاد، بفضل السيناريو المحكم الذي استطاع رسم بطولة جماعية لا تركز على شخصية معينة كما كان متوقعا، فكل الأبطال يساهمون في رسم التشويق المطلوب من الحلقة الأولى، وإثارة الحيرة والشكوك حول شخصية المتهم بالقتل قبل أن تنقلهم القصة إلى اتجاهات أخرى بعيدة تماما عن المتوّقع.

ورغم دائرة الاتهام الواسعة في العمل إلاّ أنه رسّخ لعرف يسود الدراما المصرية منذ عقود برابطة عكسية بين اكتمال حيثيات الإدانة وبراءة المتهم، والتصاقها دائما بأقل الشخصيات إثارة للشك. و”لما كنا صغيرين” حقّق الفرضية ذاتها بجعل دنيا الرقيقة التي ترتدي أحدث صيحات الموضة العالمية، وتظهر تعاطفا مع أصدقائها وحزنا مبالغا فيه على رحيلهم هي مرتكبة كل الموبقات والجرائم.

وتضيف خيرالله لـ”العرب” أن العمل تعرّض للهجوم في بدايته بسبب توصيفه كعمل مكتوب خصيصا على مقاس بطلته. لكن اتضح أنه ثريّ ويعالج العديد من القضايا الاجتماعية في سياق التشويق والجريمة التي يقدّمها، والتركيز عبر مشاهد “الفلاش باك” على رسم صورة لأسباب تغيّر شخصياتهم ونتاج تحوّل الإنسان إلى أسير للانتقام ممن آذوه.

اتسم السيناريو بالانضباط في ما يتعلّق بالنواحي القانونية بعد الاستعانة بأحد المحامين المعروفين لكتابة المرافعة لياسين في جلسة براءة شقيقه، حتى تكون خالية من الأخطاء، وليظهر مشهد المحاكمة طبيعيا، وأضاف المؤلف عليها لمسات درامية بسيطة، وحرص المخرج على حضور المحامي ذاته في موقع التصوير والاستماع لتوجيهاته لتكون المرافعة أقرب إلى الحقيقة.

وأكّد صناع “لما كنا صغيرين” أن الرسالة التي يقدمها هي عدم الثقة في البشر، لكن يبدو الهدف الحقيقي أن الإنسان قد يقع أسيرا لظروفه، فحوادث قتل دنيا بدأت صدفة بداية من قتل والدها بضربه على رأسه إنقاذا لوالدتها من محاولته قتلها خنقا، وابتزاز صديقتها الفقيرة التي منحتها كل شيء لشراء سكوتها على معايشتها واقعة قتل الأب، مرورا بصديقها الذي أصابها بالعقم بحقنها بالتعاون مع إحدى الممرضات، وصديقها الآخر الذي بدأ يكتشف تورّطها في الجرائم بعدما ربط بين السكاكين التي تستخدمها في القتل.

14