مجرد اجتماع فلسطيني..

جوهر الاختلال يُنسب إلى تفرد عباس وبؤس اللجنة التنفيذية التي شكلها على هواه وجعل الفصائل التي يتوقع أن تطلب منه شيئا أقلية في اللجنة وعند أي تصويت في أي جلسة.
الجمعة 2020/06/19
عباس يستمرئ العناد

تكاثرت مناشدات الفصائل الفلسطينية لرئيس السلطة محمود عباس بأن يدعو إلى اجتماع تأمل منه التوصل إلى خطة لمواجهة مشروع الضم الاستيطاني لثلث أراضي الضفة بعد ضم كل القدس. والآخرون، الذين يصدون بطريقتهم، محاولات إنهاء مشروعية منظمة التحرير الفلسطينية، وجدوا أنفسهم ينطلقون من فرضية أن المنظمة ناهضة بأعبائها وأن لها مجلسا وطنيا تمثيليا وطبيعيا، ولجنة تنفيذية طبيعية وتمثيلية، وكأن لا شيء مضادا حدث في بنية المجلس الوطني وفي تشكيلة اللجنة التنفيذية.

بينما الواضح وضوح الشمس أن المشكلة عند عباس، الذي حرص بعناد على شطب المؤسسات الدستورية للسلطة وعلى تجويف منظمة التحرير من حيثياتها، ولم يبق على مجرد مؤسسة لها قيمة تساعده عندما يطلب تغطية مالية عربية.

عباس وحده، هو من يقرر الاستجابة للمناشدات التي تطالب بمجرد اجتماع. وجوهر الاختلال هنا يُنسب إلى تفرد عباس وبؤس اللجنة التنفيذية التي شكلها على هواه، وجعل الفصائل التي يتوقع أن تطلب منه شيئا، أقلية في اللجنة، وعند أي تصويت في أي جلسة، يجري إحباط مسعاها، وتتحول إلى محض وجهات نظر.

اللجنة التنفيذية التي أعاد الأستاذ الراحل أحمد الشقيري تشكيلها برئاسته، في دورة المجلس الوطني في غزة عام 1966، قرأت المشهد بعد هزيمة 1967، ورأت أن استمرار الشقيري في رئاستها لم يعد يناسب المرحلة، بحكم أن الرجل كان شخصية خلافية على المستوى العربي، وكان ذا خطاب صارخ، يناوئ المحور الذي ظل على الطرف النقيض من الرئيس جمال عبدالناصر، بينما عبدالناصر نفسه، أصبح يرى الوفاق العربي من أهم لوازم المرحلة.

في نوفمبر 1967 وجهت اللجنة التنفيذية مجتمعة، خطابا إلى الشقيري، تطالبه بالاستقالة، فتحسس الرجل، وهو محام قدير، الخلل القانوني في تلك المطالبة، وهو أن لوائح منظمة التحرير لا تجيز للجنة التنفيذية إقصاء رئيسها، وأن تنحيته هي من صلاحيات المجلس الوطني. في الوقت نفسه تفهم الشقيري الأسباب والدوافع الموضوعية التي أوجبت مطالبته بالتنحي، فجاءت صيغة الاستقالة موجهة إلى الشعب الفلسطيني وليس إلى اللجنة.

اليوم، عباس يمتلك اللجنة ويمتلك المجلس ويمتلك المال، فلا الأولى ستناشده مجتمعة بأي بشيء، وأقصى المتاح لها هو أن يناشد بعض أنفار منها رئيس اللجنة أن يتكرم عليهم باجتماع. أما المجلس، في حال دعوته إلى انعقاد في رام الله، فأقصى ما يتاح لأعضائه هو إلقاء الكلمات.

وفي حال أصدر المجلس بعض القرارات غير المتطابقة مع ما يريده عباس، فإن إهمالها وعدم الأخذ بها هو منطق عباس وسلطته، ذلك لأن المجلس ليس مؤسسة دستورية لها جلسات منتظمة تُحجب فيها ثقة أو يُفرض رأي. فلو كان كذلك، لكان قرار عباس بالتحرر من الاتفاقات والتفاهمات قد صدر من فوق منبر المجلس.

مواجهة خطة الضم
مواجهة خطة الضم

حتى الانعقاد التحايلي لم يعد يلزم عباس، ومعلوم أن رئاسة المجلس لا تقرر انعقادا، لأن شيخوخة رئيسها تحاكي شيخوخة رئيس السلطة والفصائل وحماس والأنفار الذين يتوهمون أنهم يصلحون لقيادة كل مرحلة. ثم إن انعقاد الجلسات له تغطية مالية، والتغطية كلها لا تكون إلا بقرار من عباس.

ثم أين هي الحياة السياسية الفلسطينية؟ وأين هو الكيان الضامن لتنفيذ القرارات في حال تلبية عباس لطلب مجرد اجتماع أو انعقاد؟

هذه المعادلة جعلت الفلسطينيين محشورين بين الماء والنار. فإن هوجمت المنظمة، وأراد “الإخوان” الاستحواذ عليها، لكي يستخدموا عنوانها مثلما استخدمه عباس، يدافع الفلسطينيون عن كيان مختطف ومجوّف وبلا فعالية، لكنهم يقولون إن “المنظمة” موجودة وذات كفاءة ولها حيثيات. وإن اضطروا إلى  إظهار برهانهم يتحولون هم والمنظمة إلى أضحوكة، وقد يستهزئ بهم مسؤول أمني من أجهزة السلطة، أو ناطق من حماس.

على الرغم من ذلك، فإن الفصائل الفلسطينية اليسارية وحماس، لا تزال تناشد وتطلب اجتماعا لكل القوى ذات الوزن على الساحة الفلسطينية، والرجل الذي تناشده، يستمرئ العناد، ولا يهمه خطر ولا خطة، ولا انقسام، ولا تؤثر فيه محاولة لزحزحته، ولا يقبل فكرة غير ما يختمر في رأسه، ولا يكشف خطا لاتصالاته التي اتضح من معطيات الواقع أنها كانت عقيمة على مر السنوات.

اليوم، عندما تطلب الفصائل اجتماعا يكون المعنى الضمني هو التسليم بالأمر الواقع الذي بات عليه النظام السياسي.

وفي أمر آخر، يطلب عباس اليوم من العرب مئة مليون دولار شهريا للتغطية، والعرب صامتون، ولا طرف عربيا يجد نفسه معنيا بتوجيه سؤال أو التحدث عن ظاهرة مسلكية للسلطة، رغم أن كلا منهم مدجج بالتقارير المفصلة. هم لا يدفعون، ونقطة على السطر.

ليست هناك لطرف أي مصلحة في فتح سجال مع عباس عن أموال المقاصة التي حولها المحتلون إلى حساب السلطة، فأعادتها الأخيرة. الفلسطينيون وحدهم، الذين يمكن أن تُسمع بينهم أصوات، تقول إن بدء مقاطعة إسرائيل بالامتناع عن تسلم أموالنا، إجراء خاطئ وملعوب، هدفه التضييق على الناس لصالح رأي آخر، يتوخى مجرد العيش والنجاة من الفاقة.

مجرد اجتماع هو المرتجى. فمتى تقتنع الفصائل بأن التركيبة الراهنة، للمنظمة والسلطة، لن تساعدها على تمرير موقف أو تبني خطة أو استعادة مؤسسة، طالما أن عباس يتفقد “محمصة مكسرات” في وسط مدينة رام الله، في حركة استعراضية، ظاهرها الاطمئنان إلى التزام سائقي سيارات الأجرة بتدابير الوقاية من فايروس كورونا، وهو لم يتفقد في أي يوم، على مر السنين، البؤر السكانية الفقيرة والمعدمة، ولم يتفقد عائلة منكوبة أحرق المستوطنون منزلها، ليطمئن إلى تدابير الوقاية من كل أشكال الموت.

9