هيستيريا كورونا.. فتش عن المضاربين

المسارعة إلى فرض العزلة والتباعد الاجتماعي والحجر الصحي بعد ظهور إصابات بفايروس كورونا وانتشاره، توحي بأن حياة البشر شيء ثمين بالنسبة لحكومات العالم التي رددت العبارة نفسها، حياة الإنسان أهم من التبعات الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الإجراءات الصارمة المفروضة، ليصحوا الجميع فجأة على أن الأزمة الاقتصادية ستنتهي هي الأخرى بكارثة تهدد حياة البشر.
أول حالة إصابة بفايروس كورونا سجلت بتاريخ 17 نوفمبر عام 2019، لرجل من إقليم هوبي في الصين، واليوم بعد مرور أكثر من أربعة أشهر، اقترب عدد الإصابات عالميا من 2.6 مليون إصابة، وتجاوز عدد الوفيات 177 ألفا.
رغم ذلك ما زال الارتباك سيد الموقف، ولا تبدو الحكومات واثقة من أنها اتخذت القرار الصحيح. التبعات الاقتصادية والاجتماعية فاقت كل التصورات، ورغم تحذيرات منظمة الصحة العالمية من مخاطر تخفيف الإجراءات المتخذة، بدأت حكومات دول عديدة برفع الحظر تدريجيا.
العالم اليوم يدفع ثمن فشل الحكومات في الاستعداد لمثل تلك الجوائح، بعد أن استخفت بالخطر الذي تشكله الفايروسات على البشرية، رغم أن التاريخ يقدم أمثلة على أحداث مماثلة دفع العالم ثمنها باهظا.
لا حاجة للتذكير بمبالغ طائلة خصصت من قبل الدول العظمى لمواجهة تهديدات عسكرية قد لا تحصل مطلقا؛ وفي المقابل كشف وباء كورونا عن ارتباك الحكومات في مواجهة الأوبئة، وأنها خارج حساباتها رغم التحذيرات.
الملايين من العاملين فقدوا وظائفهم، وانضموا إلى صفوف العاطلين عن العمل، وإن كان البعض منهم محظوظا لأنه يعيش في بلد قادر على رعايته، فإن غالبيتهم لن يجدوا من يقف إلى جانبهم.
من سيتحمل المسؤولية الأخلاقية عن 50 مليون شخص باتوا مهددين بالمجاعة في غرب أفريقيا بسبب كورونا؛ رغم الجهود التي تبذلها الدول المعنية فإنّ السكّان المعرّضين لخطر المجاعة، سواء كانوا يقطنون في المدن أم في المناطق الريفية؛ يعانون من صعوبات متزايدة في الوصول إلى أسواق المواد الغذائية، ويواجهون ارتفاعا مطّردا في الأسعار وانخفاضا في وفرة بعض المواد الغذائية الأساسية، وذلك بسبب تدابير الإغلاق العام المفروضة للحدّ من تفشّي وباء كورونا.
لن يقتصر خطر المجاعات على غرب أفريقيا، حيث حذر برنامج الغذاء العالمي من أن انعكاسات الوباء الاقتصادية المدمرة، قد تؤدي إلى “كارثة إنسانية” على مستوى العالم، مع تضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون بشدة من الجوع ليبلغ أكثر من 250 مليونا في نهاية 2020، مهددا بحدوث “كارثة إنسانية عالمية”.
الملايين من الأطفال في الشرق الأوسط سيصبحون أكثر فقرا مع فقدان الأهل للوظائف بسبب سياسة العزل العام في المنطقة، حيث يشكل الأطفال نسبة خمسين في المئة تقريبا، من بين ما يقدر بنحو ثمانية ملايين شخص، سيتضررون بسبب خسارة نحو 1.7 مليون وظيفة نتيجة إغلاق الشركات وتعليق الرواتب.
وأدى التباطؤ العام مع توقف حركة السيارات والمصانع، إلى فائض في النفط أجبر وسطاء الذهب الأسود على دفع أموال للتخلص من البراميل التي تعهدوا بشرائها.
وأكدت مدير السياسات القطاعية في منظمة العمل الدولية أرليت فان لور، أن “عالم العمل يمر بأسوأ أزمة دولية منذ الحرب العالمية الثانية”. وأضافت أن “التأثير الاقتصادي للوباء سيكون خطيرا وطويل الأمد”.
وفي أوروبا، حذر مكتب الدراسات الاستشاري الأميركي “ماكينسي” من أن التباطؤ الاقتصادي الذي نجم عن الوباء يمكن أن يؤثر على ستين مليون عامل معرضين لخفض أجورهم أو تسريحهم.
وفي مواجهة ما وصفه بـ”العدو غير المرئي”، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نيته أن “يعلق” الهجرة إلى الولايات المتحدة “لحماية وظائف” الأميركيين، بعد أن بات عدد العاطلين الجدد عن العمل بسبب الأزمة 22 مليونا.
إن كان وباء كورونا القاتل أمرا طارئا على البشرية غافل الحكومات وأربكها، ودفعها إلى اتخاذ قرارات مؤلمة، فإن هناك أكثر من قاتل صامت تساهلت حكومات العالم المتعاقبة في التعامل معه.
نبدأ بالتدخين، الذي يقتل حسب منظمة الصحة العالمية شخصا كل 6 ثوان، أي 5 ملايين وفاة سنويا، ومثله أيضا يقتل تناول مادة السكر، حيث أكد الاتحاد الفيدرالي للسكر، أن السكر يسبب حالة وفاة كل 6 ثوان.
وبينما يتسبب التدخين والسكر معا بـ10 ملايين وفاة سنويا، تلتهم حوادث الطرقات قتيلا كل 24 ثانية، بحسب ما حذرت منظمة الصحة العالمية، أي ما مجموعه 1.35 مليون قتيل في العام؛ وسنويا أيضا يموت أكثر من 3 ملايين طفل بسبب الجوع، تبعا لإحصائيات برنامج الغداء العالمي.
هناك قاتل آخر صامت يفوق الأسباب التي ذكرت شراسة هو التلوث، في كل عام هناك 7 ملايين شخص يموتون جراء التعرض لجُسيمات دقيقة في الهواء الملوث، ويعتبر التلوث مسؤولا عن عديد الأمراض، كالسكتة الدماغية، وأمراض القلب، وسرطان الرئة، وأمراض الانسداد الرئوي المزمن، والتهابات الجهاز التنفسي.
هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى وفاة ما يقارب 22 مليون شخص على مستوى العالم سنويا؛ وليس في الأرقام المذكورة أي مبالغات، ويمكن التأكد منها بعملية بحث بسيطة بالاستعانة بموقع غوغل.
رغم ذلك، لم يطلب أحد منا التخلي عن تناول السكر، بل قدموا لنا نصائح متضاربة، ولكن لم يكرهونا على التخلي عنه نهائيا.
ورغم اتفاق الجميع على مضار التدخين، الذي تؤكده عبارات كُتبت على عبوات السجائر، إلا أن الأمر لم يصل إلى تجريم تصنيعه وبيعه.
الأمر نفسه يتعلق بحوادث الطرقات، التي تبذل الحكومات جهدها للتقليل منها، ولكن الأمر لن يصل حتما إلى إلغاء استعمال السيارات.
الأرقام وحدها تبين لماذا لم تتخذ الحكومات موقفا حازما من هذه العوامل التي تهدد حياة البشر.
بحسب المنتدى العالمي لصناع التبغ، يوجد ما لا يقل عن مليار مدخن على مستوى العالم، ينفقون سنويا أكثر من 800 مليار دولار على شراء منتجات التبغ، والأهم أن كثيرا من دول العالم تعتمد ميزانيتها السنوية على عوائد الضرائب المستقطعة من صناعة التبغ.
ولمعرفة مدى سطوة مادة السكر الذي ينتج منه سنويا 185 مليون طن، في أكثر من 130 دولة في العالم، نستأنس ببعض الأرقام؛ حيث قدّرت شركة، تي.أن.أس للمعلومات الإعلامية، حجم سوق الحلويات في منطقة الشرق الأوسط، وحدها، بنحو 113 مليار دولار سنويا، ولنا أن نتخيل الرقم على مستوى العالم؛ آخذين في الاعتبار صناعة المشروبات الغازية والكحولية، التي لا يمكن أن تستغني عن مادة السكر في صناعتها.
أما موضوع التلوث فهو قضية شائكة تتهرب الدول من مواجهتها، وقد فشلت المؤتمرات والاتفاقيات الدولية في الوصول إلى توصيات ترضي الجميع، وتقنع الدول الكبرى بالالتزام بها.
اليوم يصحو العالم مذعورا على حجم الخسائر، بعد أن ثبت أن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، باتت تهدد أعدادا تفوق ما تنبأت به أكثر الدراسات تشاؤما حول فايروس كورونا، ليعود السؤال من جديد، هل يصح أن تكون كلفة الوقاية أعلى من كلفة المخاطر، وهل أن الجميع خاسر؟
بالتأكيد لا. أتاح اضطراب الاقتصاد وأسواق المال والأسهم أمام المضاربين فرصة لجني الأرباح، سواء انهارت الأسعار أم ارتفعت، وعندما يعلن عن اكتشاف علاج أو لقاح للفايروس، كل ما يحتاجه المضاربون هو استباق لحظة الإعلان لجني المزيد من الأرباح.
المضاربون المحترفون لن ينتظروا تلك الفرصة، فأسواق المال والأسهم تتيح لهم بيع ما لا يمتلكونه، وبذلك يحققون أرباحا من الخسائر التي تكبدتها الشركات، معتمدين على خبراتهم ومعلوماتهم المسبقة حول أكثر الشركات عرضة للخسائر.
الخاسر الحقيقي من وراء لوثة كورونا هي الشعوب البسيطة المغلوبة على أمرها، التي تسعى لخبزها كفاف يومها.