رحلة المنظور من العمارة والتشكيل إلى الدراما المسرحية

لم يحظ المنظور في المسرح، بوصفه إبداعا دراميا يحمل وجهة نظر ما، وليس الفضاء الذي يُقدّم فيه العرض أو تصميم السينوغرافيا (الديكور) بأبعاده الثلاثة، على الرغم من أهميته، باهتمام كبير في النقد المسرحي العربي، مقارنة بالاهتمام الذي حظي به في الرواية، أو السرد بشكل عام. وفي رأيي إن توجّه بعض الأبحاث الجامعية المتخصّصة بالمسرح إلى مقاربة هذا المفهوم، أو المكوّن ستثمر عنه نتائج مهمة تغني عالم المسرح.
يعود مفهوم المنظور، أساسا، إلى فنّي العمارة والرسم، وقد انتقل إلى الدراسات السردية، وأصبح مكونا مركزيا في الخطاب السردي بعد أن شهد تطورا كبيرا منذ بدايات القرن الماضي حتى الآن، وجرى تخصيبه بتصوّرات مختلفة حسب اختلاف النظريات والاتجاهات والأبحاث السردية.
وتضاربت الآراء في مقاربته بسبب ارتباطه الوثيق بأحد أهم مكونات الخطاب السردي وهو الراوي وعلاقته بالعمل السردي بشكل عام، وذلك انطلاقا من أن الحكي يستقطب دائما عنصرين أساسيين، لا يمكننا من دونهما أن نتحدث عنه، هما: القائم بالحكي ومتلقّيه.
كما عرف هذا المكوّن بتسميات عديدة، فضلا عن المنظور، منها: وجهة النظر، الرؤية، البؤرة، حصر المجال والتبئير. ولكن على الرغم من تعدد صيغ مُقاربته في الخطاب السردي فإن معظمه قد ركّز على الراوي الذي من خلاله تتحدّد رؤيته إلى العالم الذي يرويه بأشخاصه وأحداثه، وعلى الكيفية التي يبلغ، من خلالها، أحداث القصة إلى المتلقي، أو يراها.
إن اختلاف الخطاب المسرحي عن الخطاب السردي في كون الأول يقدّم الأفعال الدرامية إلى المتلقي على نحو موضوعي مباشر من دون وساطة الراوي، باستثناء بعض الصيغ المسرحية التي يوظّف فيها الراوي، كما في المسرح الملحمي، في حين أن الثاني يعتمد على الراوي، أيا كانت معرفته بالأحداث والشخصيات، يجعل المنظور في المسرح مرتبطا برؤية الشخصيات، أو وجهة نظرها.
لقد أكد ستانسلافسكي، في سياق إنشاء العرض المسرحي واستراتيجية أداء الممثل، على أهمية المنظور وارتباطه الأساس بـ”الهدف الأعلى”، و”خط الفعل المتصل”، إذ من دون المنظور لا يستطيع الفنان أن يتّجه إلى الهدف المطلوب، أو أنه سيسير مغمض العينين.
إن مفهوم التطوّر عند ستانسلافسكي، يعني منظور الفنان للدور، أي التوزيع الواعي للقوى الإبداعية ووسائل التعبير وألوانها، كذلك منظوره للمسرحية ككل.
ولكن دراسة المنظور في سياق التلقي المسرحي لا تتجه، بطبيعة الحال، إلى وجهة نظر المخرج، والشخصيات الدرامية وخطاباتها وأفكارها داخل الخطاب المسرحي فحسب، بل إلى وجهة نظر المتلقي أيضا، وعلى نحو أساسي، بوصفه مستقبِل ذلك الخطاب.
ويعرّف المنظر المسرحي الفرنسي باتريس بافيس منظور المتلقي بأنه الطريقة التي يظهر بها العمل الفني له نتيجة لتعدّد وجهات النظر وحالات التعارض، فهو، أي المتلقي، يرى خشبة المسرح من زاوية معينة تحدّد وجهة نظره وفهمه للأحداث، وموقفه حينما يواجه الشخصيات، لأن المسرح هو، بدقة، تلك الممارسة التي تضع في حسابها مكان الأشياء كما تراها. فإذا جعل المخرج المتلقي يركز على صورة كذا وكذا، فإنه سوف يشاهد كذا وكذا، وإذا جعلها على نحو آخر في مكان آخر، فإن المتلقي سوف يُشاهد شيئا آخر، ويمكنه أن يهيّئ نفسه لتأثير هذه الحيل واللعب على الوهم الذي تقدّمه. ويشير بافيس إلى أن دراسات المنظور في الخطاب المسرحي لم تحضَ باهتمام كبير مقارنة بالاهتمام الذي حظيت به في الخطاب الروائي، أو السردي بشكل عام.
وفي إطار دراسته لجمالية التلقي في المسرح، يقف الباحث الإنجليزي جوليان هلتون على تقنية معروفة في التأليف المسرحي تدفع المتلقي إلى تبني موقف إحدى الشخصيات، واعتناق وجهة نظرها، وهي توجيه رؤيته إلى زاوية معينة، أو منظور خاص.
ويضرب مثالا على ذلك تكريس ياغو جهده طوال مسرحية “عطيل” ليجعل الشخصيات الأخرى، وخاصة عطيل، ترى الأشياء على الصورة التي يريدها هو.
ويعتقد هلتون أن هذه المسرحية أشبه بدرس موضوعي يجسد كيفية التوظيف الماكر للصورة، وتحوير دلالاتها، فياغو يخرج مسرحية، يشاهده عطيل فتخدعه تماما، لكن هاملت حين يلعب اللعبة نفسها لا يًصادف نجاح ياغو.
ويستنتج هلتون من المقارنة بين المسرحيتين أن أثر العرض المسرحي ومعناه يتوقفان، بالدرجة الأولى، على استعداد المتلقي لا على مهارة صانع العرض، فعطيل، بوصفه متلقيا هنا، يشاهد مسرحية ياغو بعد أن تهيّأ نفسيا لتقبل الصورة التي تطرحها، أما كلوديوس فلا يعاني من الضعف نفسه، ويمتلك وسائل دفاعه كاملة.
ولا شك في أن هذه المقارنة الذكية تقدّم نموذجين للمتلقي المسرحي، في إطار ما يعرف بـ“المسرحية داخل المسرحية”، الأول نموذج المتلقي السلبي الذي يُؤخذ بما يراه أمامه من دون تبصّر، ويتقبّله على أنه حقيقة. والثاني نموذج المتلقي الإيجابي (الحذر)، الذي يدعو إليه بريخت، وغيره من المسرحيين المعاصرين، لأنه يضع مسافة بينه وبين ما يعرض عليه، ويتّخذ منه موقفا نقديا حتى من دون أية تقنية تغريب.
ويمكن أن نضرب مثلا على تلاعب الخطاب المسرحي بمنظور المتلقي في المسرح العربي من خلال عرض عنوانه “الرقص مع الطيور”، للكاتب والمخرج السعودي شادي عاشور. تتجاور في هذا العرض مجموعة من المشاهد التي تجسد بالحركات والأداء الأكروباتي والرقص، مع قليل من الحوارات، سلوك بعض الحكام المستبّدين، وتسلطهم على رقاب شعوبهم عبر لعبة مسرحية تفترض فضاء العرض مستشفى للأمراض النفسية تعاني فيه الشخصيات من الشيزوفرينيا، فتارة يوجه رؤيتنا إلى أن الشخصية الرئيسة تمثل طاغية، وتارة أخرى إلى أنها تعاني من اضطراب عقلي ووجداني.
وقد أدى هذا التلاعب الغامض في بنية الشخصية وسلوكها إلى انقسام وجهة نظر جمهور العرض وموقفه إلى قسمين: قسم أدان الشخصية، وآخر تعاطف معها. وفي كلا الحالين كان تمثيل الشخصية لنموذج واقعي معروف إطارا مرجعيا لتكوين المنظور في التلقي المسرحي.
ويدفعنا مثل هذا العرض إلى التحذير من خطورة التلاعب بمنظور المتلقي على النحو الذي جرى تقديمه، لأنه يؤدّي إلى تشكيل وجهات نظر متباينة إزاء المشكلة المطروحة تحت تأثير التعاطف أو الكره على حساب النظرة الموضوعية، والتقويم العقلاني والأخلاقي للأحداث.