تشكيلي ومسرحي يحاربان العزلة بالكلمة والصورة

التشكيلي الأمين ساسي والمسرحي حكيم مرزوقي يطوعان العزلة بسبب كورونا إلى فرصة للإبداع.
السبت 2020/04/11
للفرح عنوان وألوان اسمهما أيقونات الأمين ساسي

فجأة توقّف العالم، وعُطّلت عجلة الاقتصاد، وانطلقت أصوات تُحذّر من أزمة تفوق أزمة الكساد الكبير، أرقام الإصابات تجاوزت حتى الآن مليونا ونصف المليون إصابة، والضحايا عشرات الآلاف. وحدهم المبدعون أثبتوا أنهم قادرون على الاستمرار، يحاربون الوباء بالفن، ويزرعون التفاؤل، بينما العالم غارق بالتشاؤم.

لن يصعب عليك أن تجده، الدائرة التي يتحرّك ضمنها عندما يكون خارج مشغله، لا يتعدّى قطرها 500 متر، مركزها حانة ومطعم في الطابق الأول لمبنى تحتله في الطابق الأرضي حانة تعرف باسم “المزار”. وعلى بعد خطوتين، حانة “النبع” المعروفة بين التونسيين بالاسم الفرنسي (لاسورس).

التونسيون مغرمون بالحانات والمطاعم، وهذا هو حال الفنان التشكيلي الأمين ساسي، فهم يحسنون اختيار أسمائها؛ وفي شارع مرسيليا، وسط العاصمة تونس، أدلة عديدة على ذلك، حيث يجد عشاق الخمارات، من أتباع أبونواس الرافضين للتباكي على الماضي، عشرات الحانات والمطاعم، التي لا تتشابه إلاّ في روادها.

منذ عقدين من الزمن، كان الفضاء الذي يحتل الطابق الأول فوق “المزار” فضاء فنيا، يرتاده الفنانون والموسيقيون، والشعراء والروائيون، ويعرف باسم فضاء بوعبانة، هناك تعرّفت على عدد من أبرز المبدعين في تونس، ومن هناك أيضا نما حبي لبلد التجأت إليه طوعا.

الحبيب بوعبانة، الذي سمي الفضاء باسمه، هو فنان تشكيلي تونسي، أكتفي بذكر ما قاله عنه الناقد عبدالحليم المسعودي “أعاد الحبيب، الذي كان من أوائل الفنانين الذين انسلخوا عمّا يسمى بمدرسة تونس وقوانينها وذوقها ودلالتها الجمالية والاجتماعية، الفن التشكيلي التونسي إلى حالته الأولى، حين يكون هذا التعبير بسيطا وبليغا، وقادرا على القبض على الحالة الإنسانية في أبعادها الكونية، وعلى اللحظة المعيشة في بعدها التونسي المحليّ”.

حكيم مرزوقي: لماذا أمارس المسرح، وثمة أماكن تحولني إلى جزء من المسرح
حكيم مرزوقي: لماذا أمارس المسرح، وثمة أماكن تحولني إلى جزء من المسرح

قد يوحي الكلام أن اللقاء الأول الذي جمع بيني وبين الأمين ساسي، كان في فضاء بوعبانة؛ ولكن، رغم زيارات عديدة قمت بها للمكان على مدى سنوات، لم ألتق الأمين هناك.

لا أعلم حتى اليوم كيف ارتبط اسم الأمين بمخيلتي بفنان يُمارس النحت، يحمل تقاطيع وجه قاسي الملامح، وتبرز عروق يديه من كثرة استعمال الإزميل والمطرقة.

التقيت به لأول مرة في حانة “النبع”، التي طالما عبرت من أمامها، دون أن يخطر في ذهني الولوج إلى داخلها، فهي دائما تمتلئ بحشد كبير من الرواد، يصعب تحديد انتماءاتهم الطبقية وفئاتهم الاجتماعية.

كنت بصحبة صديق هجر المسرح، بعد أن حقّق فيه انتصارات عديدة، ككاتب ومخرج وأحيانا ممثلا. كيف لمسرحي نال جوائز عديدة، وعُرضت أعماله شرقا وغربا، وحصدت مسرحيته “إسماعيل هاملت” إعجاب سادة المسرح الإنجليز، الذين منهم خرج شكسبير، أن يبتعد عن الخشبة؟ لطالما تساءلت عن السبب.

كنت أظن أنني قادر على تقديم تلك المعلومة، وذكر هذا الصديق دون أن أفصح عن اسمه، فالحديث عنه مشروع كتاب، ولكن بما أنني ذكرت عنوان مسرحيته، لا بأس من ذكر اسمه أيضا. الصديق الذي كان السبب في التقائي بالأمين ساسي، هو الكاتب والمخرج المسرحي والشاعر حكيم مرزوقي.

لم يتخلّ حكيم عن المسرح، كل ما في الأمر، أن العالم من حوله تحوّل إلى مسرح، يعيش تفاصيله في كل لحظة. في خمّارة “النبع” يتحوّل حكيم إلى مخرج وممثل ومتفرّج، رواد الحانة جميعهم مخرجون وممثلون، حكيم وحده من بينهم متفرّج.

مغارة تمتلئ بالشخصيات الغريبة، بينهم الطبيب، والمحامي، والرسام، والموسيقي، والبائع المتجوّل والمُحتال. ولا تندهش إن اكتشفت أن الشخص الذي يحتسي البيرة إلى جانبك يعمل حانوتيا، أو أستاذا جامعيا.

كان حكيم يقول لي متسائلا “لماذا أمارس العمل المسرحي، وأماكن مثل هذه تُتيح لي أن أتحوّل إلى جزء من المسرح؟”.

سؤال مُحرج، لن أجد له جوابا سوى أن أقول “الحاجة للنقود، يجب أن تعيش”. وفي كل مرّة أهمّ بالردّ والتطوّع بتقديم الجواب، أتراجع، لمعرفتي أن الفنان يعيش، أولا
وأخيرا، للفن وليس جريا وراء لقمة العيش.

في “النبع” تذوب الفوارق، لقد نجح هذا المكان الصغير، في ما فشلت به حكومات وأحزاب. ومع ذلك، لا شيء يُميّز هذه الحانة المتواضعة جدا، سوى نوعية البشر الذين يرتادونها.

هناك تعرفت لأول مرة على الأمين ساسي، الذي حسبته لفترة طويلة نحاتا، وبعد عدة جلسات خاطفة لم يتم الترتيب لها، بل جاءت عفويا، اتفقنا على ترتيب لقاء في مرسمه، للحديث عن تجربته في الرسم، كنت حينها قد عرفت أنه رسام.

الأمين ساسي يرسم بجناحي فراشة
الأمين ساسي يرسم بجناحي فراشة

فجأة، توقّف العرض المسرحي، بل توقّفت الحياة، ليس في تونس وشارع مرسيليا وخمّارة “العين” فقط، بل توقّف العرض في كل مكان.

كل شيء بدأ بالحديث عن فايروس ظهر في الصين، من مدينة لا نعرف عنها الكثير، انتقل كما يقال من الحيوان إلى الإنسان، والمشكلة أن لا علاج ولا لقاح له.

ما ظنناه مجرد إنفلونزا، تكشف لاحقا عن فايروس خطير قاتل يُدمّر الرئتين، وقد يتسبّب إن لم تفلح الجهود المنصبّة على اكتشاف علاج أو لقاح له، في القضاء على الملايين من البشر.

حدث ما كنا نخشاه؛ حجر ومنع تجوّل. كانت أولى ضحاياه المقاهي والحانات والمطاعم. أغلق باب “النبع” بالسلاسل والأقفال الحديدية، وفرغت الشوارع من المارة، حتى القطط، تظهر فقط عندما يجبرها الجوع على ذلك.

اضطر حكيم مرغما إلى التزام منزله، وأكرهته العزلة على العودة للكتابة، وبعد أن وصم طويلا بالكسل، يفاجئنا بفيض من كتابات ترى العالم بمنظار مختلف، هو منظار كاتب مسرحي مبدع في التقاط المشهد وتوظيفه.

لا أعلم إن كانت هي الصدفة، في اللحظة التي وصلت فيها بالكتابة إلى هذا المكان، جاءتني رسالة عبر السكايب من حكيم؛ هي مقال يُؤكّد عودة الابن الضال إلى الكتابة، ويثبت ما قلته حول قدرته على التقاط الفكرة وتوظيفها.

“إيطاليا تحتفي بالكوميديا الإلهية في خضم الجائحة.. معراج ثقافي يُصالح بين الديني والدنيوي في التصدّي لكورونا”، هذا هو المقال الذي كتبه حكيم، شكرا للعزلة المفروضة عليه.

أما الأمين ساسي، أخاله في مشغله، في مكان ما من تونس، وهو بعد أن كان يرى في شارع الحبيب بورقيبة ونهج مرسيليا مصدر إلهامه، يلتقي هناك أصدقاءه، من فنانين وكتاب وشعراء ومهمشين وصعاليك، أعاده الوباء طفلا ينبش في الذاكرة؛ فكل كهل، كما يقول “مسكون بطفل في داخله”.

والطفل الساكن داخل الأمين، ترعرع في جنان منوبة، وعاش فوق تربتها وبين أشجارها وعصافيرها برفقة جدّه، يصطحبه صباح كل يوم للصيد.

الآن، بعد أن أصبح الطفل كهلا، لا زالت الذكريات لصيقة بقلبه وعقله؛ وهذا الذي يسميه الناس، الأمين ساسي، ويطلقون عليه لقب رسام، هو نفس الطفل الذي كان يطوي البراري برفقة جدّه، ويعيش الآن بمخزون ذاكرته، وبما تبقّى له من دفئ وحنان، وأيضا عدم اكتراث. حيث كل لوحة “سفر جديد واكتشاف آخر”.

جائحة كورونا، أجبرت الأمين ساسي على العزلة، ولكنها فشلت في وقف الذكريات؛ ما زال الطفل القابع داخل الأمين يبدع، وما زال يرسم، بجناحي فراشة، لوحات مليئة بالبهجة والسحر والألوان، وكأنما به، وحيدا، يتكفّل بإلحاق الهزيمة بالوباء.

13