العرب أمام تحدي غول الفساد المتضخم يوما بعد آخر

غياب الرقابة وراء استفحال ظاهرة الفساد والمعاملات الرقمية كفيلة بتقويضها من المنبت.
الأربعاء 2020/03/18
عقبة في تصاعد مستمر

تعمّق أنماط الفساد متعدد الأبعاد من معاناة المواطنين في المنطقة العربية، وتقوّض فرص التنمية المستدامة التي تلبي حاجات الأفراد الأساسية، وتنال من جودة الحياة، وتزيد مؤشرات السخط الشعبي، ما يفرض تحديات كبيرة على الحكومات، التي من المفترض أن تتسلح بكل الأدوات لمواجهتها قبل أن يصبح الفساد وباء يصعب علاجه وتتعثر خطوات القضاء عليه، ومن ضمن أبرز الحلول الناجعة لمحاربته الالتجاء للخدمات الرقمية.

القاهرة - حولت المظاهرات التي اندلعت منذ بضعة أشهر في كل من العراق ولبنان، دفة المشاغل السياسية إلى الناحية الاقتصادية، عندما تمسك المتظاهرون بمكافحة الفساد في بلديهما، ومحاكمة الطبقة الحاكمة التي نهبت أموال البلاد، وانصبت غالبية الشعارات في هذا الاتجاه، ولم تتخل عنه، على الرغم من تعرضها لعمليات قمع ممنهجة.

وشكل شعار مكافحة الفساد التحدي الكبير بالنسبة للمسؤولين الجدد في كلا البلدين، فلم يعد الصمت على التجاوزات الاقتصادية مسموحا، وبثت تجارب العراق ولبنان في مكافحة الفساد ومساعيهما في تطويقه، الأمل في شعوب الدول العربية المجاورة في إمكانية محاربة هذه الظاهرة جديا، وما سينجم عن ذلك من انتعاش اقتصادي واستقرار اجتماعي.

وعلى رغم الآمال التي أحيتها مظاهرات لبنان والعراق، حيث كان الفساد أحد أبرز الأسباب التي دفعت إلى التظاهر بشكل غير مسبوق ضد الطبقة السياسية، إلا أن هناك شكوكا في القدرة على القضاء عليه بشكل نهائي.

 وفي مصر، لا تخفي فتحية عبدالحميد، انبهارها بالمشروعات التي شرعت في تنفيذها الحكومة المصرية في مدن مختلفة، الآونة الأخيرة، إلا أنها في المقابل تتوجس من أن تطالها شبهات فساد وبالتالي عرقلتها والتوقف عنها بعد فترة قصيرة، وبالتالي يضيع حلمها في أن “يشب أولادها في بيئة تنموية مناسبة”.

 وتخشى السيدة المصرية التي تبلغ من العمر خمسين عاما، أن يتواصل ميراث الفساد وينخر في المشروعات الجديدة، فخبرتها السابقة تؤكد لها عدم الثقة في الجهاز الإداري للدولة، فكثر حالات الفساد التي يتم الإعلان عنها تشير إلى أنه مستشر بالبلد.

وتقول فتحية، وهي أم لثلاثة أبناء، لـ”العرب”، إن ” قلقها ينبع من تغلغل الفاسدين ونجاحهم في خلق شبكة مصالح واسعة، جعلت من الفساد مؤسسة في حد ذاتها”.

ويؤكد كلام السيدة المصرية، رغم بساطته، أن المشروعات الطموحة من الضروري أن تصاحبها خطط محكمة لمكافحة الفساد تمنع انتشاره وتوقف تمدده، على أن تتخذ الحكومة إجراءات صارمة، وتستفيد من معطيات التكنولوجيا الرقمية في تحويل المعاملات من العالم الافتراضي إلى الواقعي، فتحويل المعاملات من الطرق التقليدية إلى الرقمية يعد من الحلول الفعالة لمقاومة الفساد.

ويمثل هذا البعد أحد التحديات المهمة التي بالإمكان تطبيقها أن يتجاوز الكثير من العقبات التي أرهقت ميزانيات دولة مثل مصر، وغيرها من الدول التي لم تستطع تعميم التكنولوجيا الرقمية من المعاملات مبكرا، وهي واحدة من الأدوات التي تلجأ إليها بعض الدول للقضاء على الفساد.

ولا يزال استشراء الفساد في المنطقة العربية عقبة، تؤرق الكثير من المواطنين وتزيد الاستياء الشعبي، فمؤشراته باتت في تصاعد مستمر، على الرغم من المطالبات المتواصلة برفع سقف الحريات التي تمثل قيدا ورقيبا مهمّا ضد انتشاره.

خدمات رقمية

لا يزال استشراء الفساد في المنطقة العربية عقبة تؤرق كثيرين من المواطنين وتزيد الاستياء الشعبي، فمؤشراته باتت في تصاعد مستمر
لا يزال استشراء الفساد في المنطقة العربية عقبة تؤرق كثيرين من المواطنين وتزيد الاستياء الشعبي، فمؤشراته باتت في تصاعد مستمر

يرتبط الفساد دائما بطبيعة الإصلاحات التي تطبقها الحكومات والقدرة الفائقة على رقمنة المعاملات، فكلما كانت الخدمات رقمية مرتفعة تراجعت معها معدلات الفساد، لأنها تقمعه من المنبع، وتتمكن من تقويضه قبل أن يتحول إلى ظاهرة في المؤسسة أو المكان الذي ينتشر فيه.

وتتراجع مؤشرات الفساد دائما في الدول التي قطعت شوطا كبيرا في تقديم الخدمات لمواطنيها إلكترونيا، لذلك تجد دول الخليج العربي خارج حسابات منظمة الشفافية الدولية والتي تعني بإصدار مؤشرات الفساد.

وتتصاعد وتيرة المؤشرات السلبية في باقي الدول العربية التي تحتاج إلى مراجعة دقيقة تضمن من خلالها تجفيف الفساد، ومواجهة المرتشين الذين يستنزفون ثروات الأفراد مقابل الإيهام بإنهاء الخدمات في سهولة ويسر، إلى درجة أن دفع الرشوة بات أسلوب حياة في بعض الدول.

ويتخذ الفساد أشكالا مختلفة، وقد لا يقتصر على أداء وقرارات السياسيين، بل يمتد ليشمل مقدمي الخدمات للمواطنين في شتى المجالات، الذين يستغلون جهل طالب الخدمة بما تتيحه الدولة من إجراءات تيسّر عليه مشقة التعامل المباشر مع مقدم الخدمة.

حسن الخولي: تفاقم الفساد عربيا لارتفاع عدد السكان ونقص الخدمات
حسن الخولي: تفاقم الفساد عربيا لارتفاع عدد السكان ونقص الخدمات

وعدد الباروميتر العربي لمواجهة الفساد الذي يصدره البنك الدولي أشكالا لتطور معالم الفساد في المنطقة العربية، فيما سجل مؤشر الحصول على الوظائف نظير دفع مقابل وعبر الواسطة نحو 88 في المئة من حجم الفرص المتاحة.

وتفاقمت أوضاع الفساد في عدد من المؤسسات الرسمية، ما زاد من تجذر أوضاعه وتردي جودة الخدمات، الأمر الذي دفع المسؤولين في عدد كبير من الدول إلى الإقرار بحقيقة الفساد.

ووفق الباروميتر فإن 84 في المئة من المسؤولين في دول عربية معروفة بانتشار الفساد فيها، أقروا بتفشي الفساد في المؤسسات الحكومية العام الماضي، مقارنة بنحو 78 في المئة قبل عشر سنوات.

وزاد سوء الأوضاع الاقتصادية من انتشار معدلات الفساد سعيا لتعويض ما أنفق من الجيوب، لمواجهة الخدمات المتردية، فالنظام التعليمي مترهل نموذجا، حيث يتجاوز معدل السخط على النظام التعليمي في المنطقة حاجز 60 في المئة، ودفع أكثر من 42 في المئة من السكان رشوة من أجل الحصول على تعليم أفضل.

وتتفاقم أوضاع الرشوة في قطاع الرعاية الصحية، فسوء حالة الخدمات يعد برهانا أمام الجميع، ودفع الرشاوى من أجل الحصول على جودة مميزة لم يعد خافيا، فطالب الخدمة قد يضطر تحت آلام المرض إلى اللجوء للفساد، الأمر الذي يعدّ بيئة خصبة لانتعاشه.

 ولم يحظ مؤشر قبول الخدمات الصحية، إلا بنحو 38 في المئة على الأكثر، كما تصاعدت المعاناة في مناطق الصراعات الملتهبة، خاصة اليمن وسوريا وليبيا.

ورغم قيام بعض الدول بتبني نظم صحية مثل التأمين الطبي الشامل، إلا أن تطبيقه على مراحل يعني استمرار المعاناة في دولة مثل مصر، إلى حين تغطية كافة أنحاء البلاد في نصف العقد الثالث من الألفية الحالية.

وتتجذر مشكلات الفساد بشكل كبير في منظومة مواجهة القوة البشرية وطاقات الشباب من أجل توفير الوظائف اللازمة في بعض الدول العربية.

لا يزال استشراء الفساد في المنطقة العربية عقبة تؤرق كثيرين من المواطنين وتزيد الاستياء الشعبي، فمؤشراته باتت في تصاعد مستمر

ويساور البعض قلق شديد بشأن خفوت الاقتصاد وقلة فرص العمل الجديدة، مما زاد من ثقة الجماهير في قدرة الحكومات بل وسعيها نحو حل تلك المشكلة التي ترتبط بجودة الحياة، وانخفض مؤشر الرضا عن الحكومات في تلك الإشكالية من 25 في المئة قبل عشر سنوات إلى نحو 18 في المئة حاليا.

وكانت نسبة من صرحوا بفاعلية حكوماتهم في توفير وظائف منخفضة في لبنان والعراق، فلم تتجاوز 4 في المئة و6 في المئة على التوالي.

ويشير حسن الخولي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس في القاهرة، إلى أن “الفساد ظاهرة عالمية، فالنفس البشرية واحدة في كل مكان تقبع فيها نوازع الطمع والخير والشر والميل لأخذ حقوق الآخرين، لكن تختلف نسب الفساد من مجتمع إلى آخر، فالمجتمع الذي يتمتع أفراده بالتربية والسلوك القويم والأخلاق تقل فيه معدلات الفساد.

وأضاف لـ”العرب” أن “المتحكم الأول في ظاهرة الفساد هي مجموعة القيم النبيلة الموجودة داخل الإنسان وحوله بالمجتمع، فكلما كان نسق القيم قويا ومتماسكا وصارما كلما زاد الانضباط في السلوك وتراجع الفساد”.

أما في حال ضعف القيم، فيباح معه كل عيب، بدءا من سوء السلوك وزيادة الطمع وعدم التورع عن ارتكاب جرائم تندرج في إطار الفساد، كالسرقة ونهب حقوق الآخرين والوقوع في محرمات شرعية وقانونية.

وأرجع الخولي تزايد ظاهرة الفساد في الدول العربية إلى “ارتفاع عدد السكان، مقابل عدم زيادة الموارد والحاجات المُشبعة بنفس المعدل، ومن ثم زاد التكالب على الفرص المتاحة، فالفرد يسعى بأي وسيلة لإشباع حاجاته ومصالحه الشخصية بطرق شرعية أو غير شرعية”.

غياب الرقابة

Thumbnail

لم يعد وجود الأجهزة الرقابية وحده كافيا لردع الفساد، بل يجب أن يكون هناك وازع في نفس الإنسان لتوجيهه إلى الخير، وهو ما ذكره ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي منذ نحو 700 عام، إذا لم يكن لدى الإنسان وازع داخلي يردعه عن المحرمات فلا بد من ردعه من جانب السلطان، والمقصود بالسلطان هنا كافة الأجهزة الرقابية.

وتتطلب مواجهة الفساد توعية مستمرة، ورغم هذا الدور إلا أن عمليات السيطرة عليه تكاد تكون مستحيلة، لكن من شأنها حصره أو عدم توسيع نطاقه، ولا يمكن أن يتم إغفال البرامج المتعددة في الدول العربية بما تملكه من وسائل إعلام ومؤسسات دينية ومنظمات مجتمع مدني وفي والنوادي، إلا أن تجذر الظاهرة يحتاج المزيد.

يرى جمال بيومي، أمين عام اتحاد المستثمرين العرب، أن مواجهة الفساد تتم بطريقتين، الأولى طويلة الأجل وتبدأ منذ الطفولة وهي الناجزة من خلال التعليم في المدارس وغرس الأخلاق والدين في نفوسهم، والثانية من خلال الأجهزة الرقابية ولكنها لا تكتشف الفساد إلا بعد وقوعه.

وأوضح لـ”العرب” أن الفساد المالي ينتشر عالميا وليس في بعض الدول العربية فقط، وبالتالي فإن مستوى الرفاهية لا يؤثر على الفساد، فالذي لا يرضى بالقليل لن يكفيه الكثير، لأن صفات الطمع وغياب الوازع الديني لن يثنياه عن هدفه”.

جمال بيومي: الإصلاحات تبدأ من الأسرة ونظام تعليمي ناجع
جمال بيومي: الإصلاحات تبدأ من الأسرة ونظام تعليمي ناجع

وأشار إلى أن “هناك اتجاها عالميا واتفاقيات بين الدول لمحاربة الفساد وكل أشكال الجريمة المنظمة من الرشوة والفساد وغسل الأموال وتهريب المخدرات والهجرة غير المشروعة”.

وتتحرك الدول العربية لمحاربة الفساد بشكل كبير منها الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد، والتي أقرها مجلس وزراء الداخلية والعدل العرب عام 2010، لكنها لم تدخل حيز التطبيق إلا العام الماضي.

ورغم الجهود المبذولة على صعيد الحكومات، إلا أن التحديات لا تزال مستمرة ونظرة المجتمعات العربية لا تزال سلبية حول أداء حكوماتها فعمليات التشغيل والمساواة في الحصول على فرص عمل، تكتنفها المحسوبية والواسطة، حيث تؤدي هذه المظاهر إلى القفز فوق معيار الكفاءة والإجراءات الرسمية، وقد بات ذلك أمرا شائعا.

وتقدم تقييمات البنك الدولي تفسيرا للسبب، حيث يتفق كل أربعة من بين عشرة مواطنين عرب على أن حكوماتهم تفعل كل ما في وسعها لتقديم الخدمات الضرورية، في حين يعتقد الربع تقريبا أن الزعماء السياسيين مهتمون بتلبية احتياجات المواطنين.

 وما يمكن استنتاجه، أن التصدي الحقيقي للفساد لا يعتبر خطوة ضرورية لتلبية مطالب المحتجين فحسب، لكنه يضمن كذلك تحسين نوعية الحوكمة والإدارة العامة لصالح المواطنين في جميع أنحاء المنطقة، خاصة بعد أن رصدت مؤشرات دولية أن المواطنين العرب ضاقوا به ذرعا بعد استشراء وتغلل هذه الظاهرة في مجتمعاتهم.

12