"أصابع النحات".. قصائد شاعر مهاجر كتبت على نار هادئة

كان غاستون باشلار من أهم النقاد الذين تناولوا جماليات المكان وتأثيراته في الكتابة، وهو ما أثبته لاحقا شعراء كثيرون من أمثال اليوناني يانيس ريتسوس وحتى العراقي سركون بولص وغيرهما، وعلى خطى هذين الشاعرين سار الشاعر التونسي ميلاد فايزة مقتفيا جماليات وشعريات الأمكنة التي زارها، ملتقطا تفاصيلها، متأثرا كذلك بالشعر الأميركي، ليكتب رحلته الشعرية.
منذ أكثر من عقدين، يقيم الشاعر التونسي ميلاد فايزة في الولايات المتحدة، مُدَرّسا في جامعاتها. وقد خوّل له إتقانه للغة الإنجليزية أن ينقل إلى اللغة العربية قصائد كثيرة من الشعر الأميركي الحديث.
كما أن الدواوين التي أنجزها فايزة في إقامته الأميركية جاءت عاكسة للتأثيرات التي فعلت فيه هناك، ومُحمّلة بتجربته متنقلا بين المدن الأميركية، ومُكتشفا لشعراء كبار لعبوا دورا هاما في أن يكون للشعر الأميركي الحديث إشعاع عالمي. لذا جاء ديوانه الجديد “أصابع النحات” موسوما ومُتَبّلا بنكهة أميركية.
تأثير أميركي
يفتتح ميلاد فايزة ديوانه الجديد، الصادر حديثا عن دار “ميارة” للنشر، بقصيدة “مجيء النور” للشاعر الأميركي مارك ستراند يقول في مطلعها “حتى في هذا الوقت المتأخر يحدث أن يأتي الحب ويأتي النور”.
ولعل الشاعر أراد أن يُلَمّحَ من خلال قصيدة مارك ستراند إلى أن جل قصائد ديوانه الجديد كتبت على نار هادئة لتكون شاهدة على نضجه الشعري، وحذقه لأدوات قصيدة النثر ليخالف بذلك المتسرعين والمُتَعَجّلين في كتابتها من دون أن يمتلكوا تجربة عميقة لا في الحياة ولا في الكتابة. لذا تولد قصائدهم ميّتة فلا تترك أثرا لا لدى النقاد ولا لدى أحباء الشعر.
ولعل ميلاد فايزة يرغب في أن يوحي لنا أيضا أن الشاعر الحقيقي يأتي دائما بما هو جميل حتى ولو تأخر عن أحبائه، وظل صامتا ومتوحدا بنفسه لفترة طويلة إذ أنه “حتى في هذا الوقت المتأخر تلمع عظام الجسد، ويتوهج في الأنفاس غبار الغد” كما يقول مارك ستراند في قصيدته الآنفة الذكر.
وتبدو قصائد ميلاد فايزة في ديوانه “أصابع النحات” كما لو أنها يوميات ترصد محطات من حياته وهو يتجول بين المدن سواء في الولايات المتحدة أو في كندا. وهو يفتتحه بقصيدة عن سان فرانسيسكو التي كانت بحسب ما أعلم، المدينة الأولى التي حطّ فيها رحاله تماما مثلما كان حال الشاعر العراقي الراحل سركون بولص.
ومثل هذا الأخير يتجول فايزة فيها باحثا عن آثار أولئك الشعراء المتمردين والثائرين على سطحية المجتمع الأميركي، والذين فروا إلى هذه المدينة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ليكونوا في مأمن من عنف ورداءة المجتمع الاستهلاكي. وجل هؤلاء كانوا من جماعة “البيت جينيرايسون” الذين صنعوا مجد الأدب الأميركي نثرا وشعرا بعد الحرب الكونية الثانية.
الشاعر المتسكع
يتسكع ميلاد فايزة في الشوارع باحثا عن “شعراء يكتبون بيانات المنفى في حاناتها”، و”يلعنون الرأسمالية والمجازات الباهتة”. كما أنه يبحث عن روائيين “يبنون جسرا للجنود الفارين من حروب طائشة” مثل حرب فيتنام التي شهدت أكبر تظاهرات معادية لها.
ويدخل الشاعر حانة يتمنى أن يلتقي فيها بشاعر “يتأمل منفاه مثله في لكنة نادلة غريبة”، ويمشي في شارع في الحي الإيطالي، راغبا في أن يلمح “شاعرة تعلق نجوما زرقاء على سروة في الجنوب”.
ولكن لن يلبث ميلاد فايزة أن يعثر على من يرافقه في تيهه في المدينة، وهي امرأة من أصول هندية تروي له قصص أجدادها الذين تركوا خلفهم “بيوتا في العاصفة”، فيروي لها هو ما فعله الغزاة الفرنسيون بحقول الزيتون في مسقط رأسه بمنطقة الساحل التونسي. وفي النهاية يذهب العاشقان إلى الفراش لـ”يتماوجا ويتقاطعا ويصرخا حين تنكسر الموجة”.
وخلال خمسة أيام أمضاها فيها، يصف لنا ميلاد فايزة مدينة مونتريال الكندية وهي تستقبل ندف الثلج الأولى تحت سماء واطئة، مثل سماء باريس في قصائد شارل بودلير. وهو يجد الدفء والحب بين أحضان امرأة التقاها بالصدفة ليعيش معها لحظات من الحب المحموم في غرفة في فندق.
وفي مدينة أنابوليس زرع الشاعر مع حبيبته شجرة كرز لـ”يأكل من ثمارها” أطفالهما القادمون، و”استحضرا الأرواح”، ومعا “رقصا على الرمل”، و”فكرا في البساطة وأسئلة الفن والحداثة”، ثم مارسا الجنس بجنون في الشارع غبر عابئين بالمارة فكانت “ريح وكان ليل وكان صراخ”.
أما في قصيدة “تفاح وأساطير”، يأخذنا ميلاد فايزة إلى شوارع مدينة شارلستون لنرافقه وهو يتجول مع حبيبته في الشارع متبادلين قبلا محمومة. وبين حين وآخر تتعالى من خلفهما همسات عاشقين آخرين يشتهيان أن يفعلا ما يفعلان، أو تأوهات رجل مسن “أيقظت بوساتهما جوعه القديم”.
وفي “مقهى باريس” يستمع العاشقان إلى موسيقى الجاز يعزفها يابانيّ كان مثل “درويش انسدل على خديه شعر أسود”، وكانت “تغرق في هدوئه العاصفة”. لكن في مدينة مريلاند، يعيش الشاعر شتاء قاسيا بعد أن هبت عاصفة ثلجية “أغلقت الشوارع والبيوت”.
وها أنه وحيد بلا حب وبلا حنان، ولا شيء “يتحرك في تلك الشقة”، ولا “رائحة للشهوة والماء الزلال”، ولا “ظل لجسدين عاريين يتماوجان في العاصفة”. لا شيء يُسْمَعُ غير الريح “تلعلع في السماوات”، و”دقات الساعة وانكسار الثلج على الشرفات”.