حزم أميركي لحسم أزمة سد النهضة

تبذل الإدارة الأميركية جهودا كبيرة لإنقاذ مسودة اتفاق سد النهضة التي أعدتها بالمشاركة مع البنك الدولي، بعد أن أصبح المشهد غامضا عقب غياب إثيوبيا عن الجولة التفاوضية الأخيرة في واشنطن يومي الخميس والجمعة، وهو ما وضع مسألة التوصل إلى اتفاق شامل ونهائي في خانة معقدة. وبات الرهان الأخير مرتبطا باحتمال ممارسة ضغوط كبيرة على أديس أبابا وإجبارها على تأخير عملية ملء بحيرة سد النهضة.
القاهرة - بعثت ثلاثة بيانات صدرت السبت، لكل من الولايات المتحدة ومصر والسودان، بعدد من الإشارات المتعلقة بأزمة سد النهضة، حيث توافقت الدول الثلاث على ربط عملية ملء بحيرة السد في يوليو المقبل بالتوقيع على اتفاق يشمل حل الخلافات الفنية.
واتسمت نبرة البيانات المختلفة بقدر عال من الهدوء، ولم ينجر أحدها إلى مربع السخونة السياسية، وحاولت وضع النقاط على الحروف كي يظل الأمل مستمرا في التوافق، واستعادة إثيوبيا لمقعدها على طاولة المفاوضات في واشنطن، قبل أن تذهب الأزمة إلى مناح بعيدة.
وتريد الإدارة الأميركية عدم التفريط في الزخم الذي أوجدته رعايتها للمفاوضات، ورفض الانجرار وراء تهديدات مباشرة من هنا أو هناك، لأنها تعي أهمية الدور الذي تقوم به لجهة صورتها كصانعة للسلام في المنطقة، وأن تدخلاتها ليست دائما ما تكون سلبية.
وفضلت ممارسة التريث والحذر، التي لا تجيدها كثيرا إدارة الرئيس دونالد ترامب، دون أن تتخلى عن رغبتها في الحسم عاجلا، لأن دورها في سد النهضة يتجاوز عملية تسوية أزمة مشتعلة إلى إمكانية رسم دور غاب طويلا عن السياسة الأميركية في الأزمات الإقليمية.
وقال البعض من المراقبين، إن ثمة رسائل عدة يمكن استنباطها من التوجهات التي أفضت إلى خارطة طريق محددة الجدول الزمني، وعملية إدارة سير المفاوضات، والتلويح بمخاطر استمرار الخلاف وربطه بمستقبل التنمية في منطقة حوض النيل، وتؤكد في مجملها على أهمية التسوية بالتوافق.
وشدد وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوشين، السبت، على ضرورة التوصل إلى اتفاق قبل استكمال بناء سد النهضة من أجل منع وقوع “أضرار جسيمة لدولتي المصبّ”، قائلا “لا ينبغي أن تتم التجارب النهائية وعملية الملء دون التوصل إلى اتفاق”.
ودافعت الولايات المتحدة عن المسودّة بكل مكوناتها التي تعتقد أنها إيجابية لجميع الأطراف، بأنها نتاج سبع سنوات من التفاوض بين الأطراف الثلاثة، وراعت كل التعليقات الفنية، وقدمت حلولا شاملة وعادلة ومتوازنة، بمعنى أنها ليست اختراعا أميركيا صرفا، بل فرضتها ضوابط ودراسات فنية وعلمية محكمة يجب احترامها.
وانطوت تصريحات وزير الخزانة الأميركي على رفض مباشر للطلب الإثيوبي بتأجيل التوقيع على اتفاق سد النهضة إلى ما بعد الانتخابات العامة في أغسطس المقبل، ردا على رغبة أديس أبابا في توقيع اتفاق جزئي يحدد قواعد الملء من غير الاتفاق حول التشغيل وآلية فض النزاعات، لتبدأ عملية ملء بحيرة السد والتشغيل الجزئي للكهرباء في موعدها في يوليو المقبل.
وقال متابعون، لـ”العرب”، إن هذه النقطة مكمن الخطر على الحكومة الإثيوبية، وتضعها في موقف بالغ الحساسية، فكيف ستتصرف مع واشنطن في ظل تصميم الأخيرة على عدم الربط بين الانتخابات والأزمة التي تعلم أن تأجيلها مرتبط بأسباب سياسية وليس بدوافع فنية، والغرض منه أن يحتفظ آبي أحمد رئيس الوزراء بورقة السد لصالحه بدلا من أن تنقلب عليه.
وتبدو المسودة الأميركية متسقة مع فحوى التفاهمات المشتركة السابقة، في إشارة غير مباشرة توحي أن إثيوبيا متمسكة بالمماطلة في عملية تقديم رأي نهائي في المسودة، وتلوّح بعناوين فضفاضة من نوعية عدم عدالة بنودها مع الرغبة في التنمية وإدارة المياه داخل أراضيها.
ولوحت واشنطن والقاهرة والخرطوم، بضرورة استيفاء معايير الأمان الدولية قبل بدء ملء السد، لقطع الطريق على أديس أبابا من القيام بخطوة منفردة تحرج الجميع.
وأكدت الخارجية السودانية، السبت، أنها قدمت ملاحظاتها حول المسودة خلال اجتماع واشنطن الأخير، وضرورة التوصل لاتفاق يتضمن تشغيلًا آمنًا للسد قبل بدء عملية الملء الأول للسد.
وقال أستاذ القانون السوداني والباحث في قضايا المياه، محمد مفرح، لـ"العرب" إن "البيان الأميركي اتبع سياسة المد والجزر، ووزارة الخزانة كشفت عن ضغوط ضمنية على إثيوبيا بشأن حسم المسألة قبل يوليو المقبل، وأن هناك خطورة للتأخير على أمن واستقرار المنطقة".
وألمحت الإدارة الأميركية إلى مخاطر عدم إنهاء النزاع حول سد النهضة سريعا على ملفات دعم منطقة حوض النيل الفقيرة، وتأثير ذلك على مصير أكثر من 250 مليون شخص يعيشون في كل من إثيوبيا ومصر والسودان.
وأضاف مفرح، أن واشنطن أشادت بتوقيع القاهرة على المسودة، لكن وزارة الخزانة التي بدت متفهمة لغياب إثيوبيا وواعية لأهمية توقيع اتفاق مرض بين الأطراف الثلاثة، لم تخف انزعاجها من فشل المفاوضات والتأثيرات السياسية لذلك.
ورجّح أن يلعب السودان دورا مؤثرا بعد أن أبدى مخاوف من خطورة السد على أمنه المائي، وتأثير ذلك على الأراضي الزراعية وضرورة حسم المسألة في أقرب وقت ممكن.
وينطوي الحديث عن الآثار الاقتصادية والدعم الذي تتلقاه دول المنطقة، على ملامح تطور قد تتزايد الإشارات إليه لاحقا إذا وجدت واشنطن أن إثيوبيا مصممة على تأجيل العودة لطاولة المفاوضات.
ولفت الخبير المصري في الشؤون الأفريقية أيمن عبدالوهاب إلى أن التوقف عند الملف الاقتصادي قد يكون ورقة ضغط جديدة للتحرك الأميركي وقبول المسودة دون مماطلة أو تملص، لأن الدول الثلاث تحتاج إلى الدعم المالي والفني من واشنطن.
وأشار لـ“العرب” إلى أن واشنطن روّجت لاتفاقها وأكدت على شموليته ومراعاة مبدأ الاستخدام العادل للمياه، لكن إثيوبيا تعتقد أنها بتأخير الرد وعدم الحضور يمكنها كسب المزيد من النقاط لصالحها، وهو ما رفضته واشنطن بشدة.
وذهب إلى أن توقيع مصر بالأحرف الأولى على المسودة أكد صلابة موقفها ومرونتها في التفاوض والتوصل إلى حلول نهائية بصورة رضائية، ما أكسبها تقديرا لحسن نواياها، وربما يفتح المجال لممارسة ضغوط على إثيوبيا التي تبدو أمام العالم “متعنتة ولا تأبه بمصير شعوب الدول الأخرى في قضية شديدة الحساسية تلامس حياة الناس”.
وكي تنقذ واشنطن اتفاق سد النهضة عليها أن توجد مخرجا مناسبا وسريعا قبل أن تتفاقم مكونات الأزمة، ويجد الرئيس ترامب نفسه أمام استحقاق الانتخابات الرئاسية التي قد تكبل حركته الخارجية، وبدلا من أن يحسب تحريك هذا الملف لصالحه يكبده خسائر فادحة.