أبناء السجينات أبرياء يجرمهم المجتمع

تقبع الآلاف من السيدات في سجون مصرية، حيث تروى مئات القصص التي تعكس معاناة السجينات، لعل أكثرها إيلاما قصص أطفالهن الذين لا ذنب لهم سوى أنهم أبناء لأمهات يقضين عقوبة السجن.
القاهرة - فاجأت إجابة طفلة في الثامنة من عمرها أستاذتها حين سألت عن أكثر الأماكن التي تشعر فيها بالأمان، فقالت الطفلة “السجن”. ورغم أن المكان والحالة يمهدان لتلك الإجابة، حيث جاءت داخل مقر جمعية “رعاية أبناء السجينات” في القاهرة، ضمن محاضرة لتعديل سلوك الأطفال الذين تعرضوا لأزمة سجن الأم على وقع فقر وعجز عن سداد الديون، غير أن الأستاذة لم تتوقع أن تتلقى إجابة صادمة وعاكسة على تلك الدرجة من المباشرة.
تعكس الإجابة تبدلا في القيم والمفاهيم لدى هؤلاء الأطفال والمجتمع، فضلا عن رغبة في الانزواء هربا من أعين المحيطين بهم، ممن لا يعملون على تقليل آثار الأزمات النفسية العميقة التي يخلفها غياب الأم في حالة كالسجن، بما تخلقه من حرمان الرعاية والوصم.
كلما كان الطفل أكثر وعيا واستيعابا للأحداث في المجتمع الذي يعيش فيه، ارتفعت مخاطر تلك الأعراض وكانت أكثر قابلية للظهور، وهو ما يفسره قرار كريم قبل 5 أعوام، وكان آنذاك في سن السابعة عشرة، حيث انقطع عن المدرسة وظل منزويا في منزل أقاربه يباشر أشقاءه، حتى خرجت والدته بعد 3 أعوام، وأصرت على إعادة تسجيله لاستكمال دراسته.
رعاية أبناء السجينات
تقول الأم عبير محمد (ليس اسمها الحقيقي) لـ”العرب”، إن “التجربة صعبة للغاية، وقد تركت رواسب كبيرة داخلي ولدى أبنائي، وما زلت أحاول إزالتها، لكن الأمر ليس سهلا، فهو أقرب إلى حساسية حيال المجتمع نتجنب إثارتها”.
قضت عبير 3 أعوام في السجن بعدما عجزت عن تسديد إيصالات جراء حصولها على بضائع لبيعها والإنفاق على أبنائها الأربعة بعد الانفصال عن زوجها. وتركت الأم الأبناء وأكبرهم 17 عاما يليه آخر 15 عاما مع فتاتين في سن السابعة والرابعة، وكانوا يتنقلون للعيش بين الجيران والأقارب.
تقول عبير “كانوا يأتون إليّ خلال الزيارة في السجن مرّة كل نصف شهر، لم أكن أرغب في تعريضهم لذلك الموقف، لكن كنت أنتظر بشوق لأراهم حتى وأنا أتألم من شكواهم كل مرة، وحديثهم عن التضييق عليهم في الطعام والعيش، وكلمات المحيطين بهم”.
اغرورقت عيناها وتابعت “أقسى ما في كل ذلك وفاة أحد أبنائي وأنا في السجن، وكان مصابا بثقب في القلب، لم أعلم إلا بعد بـ10 أيام، أذكر آخر كلمة قالها لي بأسى “ماما أنت هتخرجي متى”.
خرجت الأم من السجن بعدما نشرت صحافية حالتها وتكفلت جمعية خيرية بسداد ديونها، لكن الأزمة لم تنته، حيث عانت الأم من رواسب التجربة، ولاقت صعوبة في التعامل مع كل من حولها، بما في ذلك الأبناء.
وتضيف “كنت مفرطة في العصبية و تصيبني تشنجات، كالطفل الذي يكتشف العالم من جديد ولا يستطع التعامل مع من حوله، وحاولت تجاوز ذلك بسرعة لمواجهة ما خلفته التجربة داخل أبنائي”. على الرغم من أن الأم لم تقطع شوطا كبيرا في التعليم، لكنها بغريزتها استطاعت أن تلمس أزمات أبنائها، حاولت تعويضهم بداية بالانتقال من منطقتهم السكنية إلى أخرى لا يملك عن سجلهم فيها أحد، وأغدقت عليهم بالهدايا والألعاب لتعويض فترة الحرمان، وحرصت على إدماجهم في برامج تأهيلية تقدمها جمعية “رعاية أبناء السجينات” وهي الوحيدة في مصر التي تعنى بتلك الفئة.
صدمت كلمة “السجينات” في اللوحة التي تحمل اسم الجمعية فتاتيها حينما دخلتا أول مرة، وأبديتا انزعاجا من تذكيرهما بشيء كانتا راغبات في نسيانه، لكن الأم عالجت ذلك قائلة، “في ماذا تهمكما الكلمة؟ هم يقصدون السابقات، ويقدمون ألعابا وأنشطة ودروسا، وستتعرفان على أطفال آخرين”، ثم تركت الأم لفتاتيها خيار المشاركة أو الانقطاع، فقررتا الاندماج.
يشير الأمين العام للائتلاف المصري لحقوق الطفل، هاني هلال، إلى غياب المسؤولية المجتمعية صوب تلك الفئة (أطفال السجينات) عبر المجتمع المدني أو الإعلام.
وقال لـ”العرب”، إن “الأمر يحتاج إلى حملات توعية ضخمة في المجتمع للدفاع عن هذه الفئة المظلومة، ممن يوصمون دون أن يقترفوا ذنبا، وقد يؤدي ذلك إلى تشوهات نفسية عديدة”.
وأضاف هلال، أن القضية صعبة وشائكة، ليس فقط لإهمالها، لكن لصعوبة تحقيق إنجازات فيها سوى بعد نضال طويل، حيث تعد قضية الوصم من المشاكل الراسخة في المجتمع.
وسبق وأن شارك الائتلاف المصري لحقوق الطفل في صياغة تعديلات على قانون الطفل في العام 2008 لفائدة تلك الفئة، خصوصا قضية الأطفال المولودين داخل السجون لأمهات موقوفات، وحاولت التعديلات توفير رعاية لهم عبر عزلهم عن السجينات الأخريات في منشأة داخل السجن كانت وضعيتها أقرب إلى روضة للأطفال، وهي تخضع في إشرافها لوزارة التضامن الاجتماعي.
أشار هلال إلى التعديل الأبرز والذي نص على عدم ذكر السجن في خانة محل الميلاد للأطفال الذين يولدون داخله، كي لا يلحقهم العار طيلة حياتهم.
وعلى خلاف الحالة المسيطرة داخل المجتمع بتجاهل مسؤوليته تجاه تلك الفئة، كان أبناء السجون مفتاحا لدخول الصحافية المصرية نوال مصطفى إلى عالم المجتمع المدني فقط من أجل تبني قضيتهم.
اللافت أن تلك القضية تطورت مع الوقت، وثقلت بالتجربة، وتفرعت محاورها، لتشمل ليس فقط الأطفال داخل السجون، بل وخارجها ممن تترك تجربة سجن الأم فيهم أثرا سيئا يحتاجون إلى برامج تأهيلية لتجاوزه.
دشنت نوال جمعية “رعاية أبناء السجينات” بالمصادفة، حين زارت محكومات في السجن لإعداد موضوع صحافي، ورأت أطفالا في باحته، وعند سؤالها من هؤلاء، فتحت الإجابة بابا للتفكير لديها، ورغبة في التغيير انتهت بإعلان الجمعية في العام 1990.
تقول نوال لـ”العرب”، “شعرت بالمسؤولية إزاء هؤلاء الأطفال ممن يفتحون عيونهم على عنبر وسجينات، بدأت في النشر عنهم، ولاقت القضية ردود فعل كبيرة وتشجيعا من القراء، وهم من اقترحوا عليّ تدشين جمعية للعناية بهم”.
تفكير خارج الصندوق
وتعكس تجربة نوال قابلية المجتمع للتغيير، إذا أتيحت له فرصة المعرفة والوعي والتفاعل.
ولفتت إلى أنه في البداية كانت الأنشطة محدودة، تتمثل في زيارة عنبر الأمهات كل شهر، وإحضار احتياجاتهن من الحفاظات والألعاب والملابس لأطفالهن، لكن الاحتكاك المباشر فتح قضايا مجتمعية عديدة، من ضمنها رعاية هؤلاء الأطفال بعدما يخرجون من السجن، خصوصا وأن مسجونات في قضايا مخدرات كن يقنعن الأمهات بتولي مسؤولية أبنائهن بينما في الواقع يستغللنهم في تجارتهم المجرمة.
وتابعت “اكتشفت أن نسبة كبيرة منهن محكومات بسبب عجزهن عن سداد الديون، وبدأت في نشر القصة فخلقت وعيا مجتمعيا بقضية الغارمات، ولم تكن مطروحة من قبل، ثم تبنت الجمعية قضية إخراجهن بالمشاركة مع جمعيات خيرية كبيرة، حتى تطور الأمر وبات الرئيس نفسه متبنيا للقضية”.
وسبق أن أشار وكيل لجنة التنمية المحلية في البرلمان النائب أحمد عبدالواحد، إلى أن عدد الغارمات والغارمين في السجون المصرية يمثل من 20 إلى 25 في المئة من مجمل الموقوفين.
وثمة قانون مطروح على طاولة البرلمان المصري لتغيير عقوبة السجن للغارمات بالخدمة العامة في المجتمع، لكنه من غير المتوقع صدوره من قبل البرلمان الحالي في ظل ازدحام أجندته وتواري الحديث عنه.
وحققت نوال مصطفى، حراكا مجتمعيا بجهود بسيطة، حول قضية الغارمات، وتأمل أن تحقق تفاعلا مماثلا في قضية أبنائهن، وهو المشروع الذي توليه الجمعية عناية حاليا، تحت اسم “نقطة ضوء”، بعدما أطلق مشروع “حياة كريمة” في عام 2013، من أجل تمكين السجينات السابقات اقتصاديا عبر مشاريع صغيرة.
عدد الغارمات والغارمين في السجون المصرية يمثل من 20 إلى 25 في المئة من مجمل الموقوفين
توضح رئيسة الجمعية “الوصمة لا تطال الأم فقط، بل أبناءها أيضا، ما يؤثر على مستقبلهم واندماجهم في المجتمع.. فكرنا في أن أفضل حل لإعداد أشخاص أسوياء يواجهون الرفض المجتمعي ويزيل عنهم الوصم هو التعامل معهم على أنهم أطفال طبيعيون دون توجيهات مباشرة أو حديث عن أزمات أمهاتهم، مقابل العمل على تنمية مهارتهم واكتشاف مواهبهم وتبنيها، ومساعدتهم في الدراسة، لأن بيئاتهم فقيرة وتركهم لها يجعلهم عرضة للانحراف أو التشويه داخل المجتمع”.
تلقت “العرب”، تعليمات قبل المشاركة في أحد أنشطة الجمعية لتأهيل الأطفال ودمجهم في المجتمع، بتجنب الحديث مع أي منهم عن تجربة سجن الأم، فالهدف هو تجاوز تلك الذاكرة داخلهم وليس ترسيخها.
وتحاول الجمعية جاهدة إزالة أثر الوصم، غير أن اسم “رعاية أبناء السجينات” يمثل في حد ذاته وصما، وهو إشكالية بالفعل داخل الجمعية حاليا، وهناك من يميلون فعلا إلى تغيير الاسم لما يحمله من وصم لم ينتبه إليه العاملون في التجربة وتتطور أهداف الجمعية.
تقول رئيسة الجمعية “نحن بين اتجاهين، الأول يرى ضرورة التغيير وآخر يخشى من أن نخسر إرثنا الذي حققناه خلال 30 عاما، وجمهورنا الذي عرفنا بذلك الاسم، فضلا عن التعقيدات الإدارية عند تغييره”.
وتشير إلى حل وسط توصلوا إليه وهو تصدير أسماء المشاريع المنبثقة من الجمعية مثل “نقطة ضوء” و”حياة جديدة”، وهي أسماء تدعو إلى التفاؤل والأمل، مقابل تورية اسم الجمعية خصوصا في الأنشطة.
نوافذ للتعبير
داخل حجرة تتوسطها طاولة، تجمع 20 طفلا تتراوح أعمارهم بين 4 و13 عاما، لحضور ورشة عن الرفق بالحيوان، وجميع الأطفال من ضواح شعبية فقيرة، اعتادوا رؤية الإساءة إلى حيوانات الشارع من قبل الصغار، وربما كانوا هم أنفسهم بعضا من هؤلاء.
يدرك هؤلاء الأطفال منذ انتظموا في دورات الجمعية أن تصرفاتهم مراقبة، وأنهم مميزون عن ذويهم بإتاحة نوافذ أمامهم للتعبير عن أنفسهم، والمشاركة في أنشطة لم يختبروها من قبل على بساطتها، كسماع قصة والتلوين والتشكيل بالصلصال، وطلب مشاركتهم في نقاشات.
بدأ المحاضر وهو من جمعية خيرية على التعاون مع أطفال السجينات، وتعني في جزء من نشاطها بالرفق بالحيوان، الحديث إلى الأطفال بلغة بسيطة عن السبيل الذي يجب أن نعامل به الحيوانات، بعدما وزع عليهم كتيبا لتلوين معنون بـ”كن أنت صوتي”.
واستطرد المحاضر في توضيح كيف أن كل الحيوانات مفيدة، ليبادر محمد (13 عاما) بالسؤال “كيف هذا؟ ما فائدة الأسد وهو يمكن أن يأكلنا؟”. يمكن النظر إلى سؤال الطفل على اعتباره استدعاء لقانون الغاب، ربما هو نفسه عانى بعد تجربة والدته حتى ترسخ في ذهنه أن القوي يبتلع الضعيف دائما.
المحاضر ردّ ببساطة “الأسد يأكل حيوانات أخرى، وهذا مهم في التوازن البيئي، مثلا سمكة القرش تأكل الأسماك الأصغر منه، وإذا غابت أسماك القرش كثرت الأسماك الصغيرة في البحر فتسبب مشكلة، وهكذا”.
بخلاف تواضع المستوى الاقتصادي الظاهر على بعض الأطفال أكثر من غيرهم، وتأثيرات البيئة من حيث الزينة غير المناسبة لبعضهم، والخجل من التعامل مع الغرباء، والضيق من التصوير ومن لمح عبارة “سجينات” في اللافتة، يبدو الأطفال متجاوزين لأزماتهم غير المباشرة.
يتعمد بعض الأطفال الحديث عن الجوانب المضيئة، مثلا ابنة عبير قالت إنها متفوقة في الدراسة وترغب في أن تصبح مضيفة طيران حينما تكبر، لإعجابها بملابس المضيفات.