"حكومة الرئيس" تثير اشكاليات النظام السياسي في تونس

أثارت مشاورات تشكيل الحكومة التونسية في جزئها الثاني تحت يافطة شرعية رئيس الجمهورية الجدل من جديد حول طبيعة النظام السياسي في تونس الذي أثبت في كل محطة انتخابية أو إحراج دستوري عدم استجابته للبنية الديمقراطية التي تأسس عليها النظام السياسي برمته.
تونس – ترجمت مفاوضات تشكيل الحكومة التي يقودها الرئيس المكلف إلياس الفخفاخ عللا وثغرات يحتويها النظام السياسي الذي انقلبت قواعده لأول مرة منذ إعلان الجمهورية الثانية رأسا على عقب بالارتداد إلى ما سعت تونس إلى القطع معه في دستور 2014 وهو النظام الرئاسي.
ولم يخف رئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ في تصريح له خلال مؤتمر صحافي أنه يستمد شرعيته من رئيس الجمهورية قيس سعيد بعد انتفاء الشرعية البرلمانية بسقوط حكومة حركة النهضة الإسلامية التي قادها الحبيب الجملي بالبرلمان.
وحسب خبراء دستور، فإن ما زاد من تعميق فجوة الشرعية لدى الفخفاخ هو حصوله على نسبة ضئيلة جدا من ثقة الناخبين التونسيين بعد تحصله على 0.34 من نتائج التصويت مما جعله في ذيل القائمة وأحاله إلى الفشل في امتحان الشرعية الأول وهو كسب أصوات الناخبين.
ورغم تداول اسمه في انطلاق مشاورات الحكومة الأولى داخل كواليس حركة النهضة من طرف بعض أعضاء مجلس الشورى وهو الذي ترشح للرئاسية بتزكيات نوابها، استقر القرار النهائي بين الحبيب الجملي ومنجي مرزوق ما يعني فشله الثاني في كسب شرعية الحصول على ثقة الحزب الفائز في الانتخابات.
ولكن ذلك لم يحل دون أن يكون الفخفاخ القادم من أوساط الأعمال والاقتصاد على رأس الحكومة التونسية مستمدا شرعيته من شرعية رئيس الجمهورية بعد تفضيله على عدد من المرشحين الذين فاقوه من حيث الدعم الحزبي.
ويرى محللون أن اختيار الرئيس يعكس رغبته في بسط نفوذه واختياره لشخصية تحظى بدعم كتلة واحدة وهي كتلة تحيا تونس المكونة من 14 نائبا ومساندة دون ترشيح علني من حزب التيار الديمقراطي 22 مقعدا.
وكان مسار تعيين رئيس الحكومة الذي بدأ بحكومة الجملي إلى تكليف رئيس الجمهورية للفخفاخ في ما يعرف إعلاميا بمصطلح ”حكومة الرئيس” سليما دستوريا من حيث المنهج ولكنه يثير من حيث المبدأ الجدل من جديد حول طبيعة النظام السياسي.
ويشمل تعيين رئيس الحكومة في الأنظمة البرلمانية صلاحيات الحزب الأول في حين يختص رئيس الجمهورية بتعيين رئيس للوزراء داخل الأنظمة الرئاسية، وهو ما يجعل حسب نظر خبراء القانون الدستوري من بينهم عبدالرزاق المختار، من الفخفاخ يبحث عن مشروعية لم يكتسبها في غياب حزام سياسي له في البرلمان.
ويرى محللون أن الفخفاخ يقف في المنتصف فهو ليس بصفة رئيس حكومة كاملة الشروط ولا هو رئيس وزراء داخل نظام رئاسي وهو في مرحلة ما يشبه الأعجوبة من عجائب الديمقراطية والإحراج الدستوري حيث اصطدم النظام السياسي مجددا بمطبات جديدة.
ويجمع العديد من المتابعين للشأن العام على أن المشاورات والخطط العريضة للتصورات والتوجهات التي ستعمل عليها الحكومة المرتقبة جسمت خيارات الرئيس قيس سعيد، ولعل أهمها تأكيد رئيس الحكومة المكلف على مقاومة الفساد وتشكيل حكومة مصغرة تضمن النجاعة والفاعلية وتضم كفاءات تستوعب دقة المرحلة وتضم تمثيلا حقيقيا للمرأة والشباب.
ومن السهل ملاحظة ما بدا من تغيرات بمقارنة خطاب الفخفاخ عند ترشحه وخطابه بعد تكليفه من قبل الرئيس، فقد تخلى عن بعض الأفكار الليبرالية التي تحدث عنها في حملته الانتخابية ودعوته لخوصصة بعض المؤسسات العامة التي تسجل خسائر على غرار الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد مما يجعله في اقتراب كبير من أفكار قيس سعيد اليسارية الاجتماعية.
وشدد الفخفاخ على أن حكومته تحمل تصورا مشتركا منحازا للقيم التي جسدها رئيس الجمهورية قيس سعيد على أساس الخط الانتخابي الذي اختاره التونسيون عبر تصويتهم في الدور الثاني من الرئاسيات.
وما يؤكد نوعا ما حسب مراقبين انصهار إرادته في إرادة الرئيس هو استبعاده لحزب قلب تونس من المفاوضات وهو الحزب الذي يترأسه رجل الأعمال نبيل القروي منافس سعيد خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
وترددت في خطاب الفخفاخ خلال المؤتمر الصحافي إحدى أهم الأفكار التي يحملها رئيس الدولة وهي الشعب يريد وتجلى ذلك في إجابته على سؤال استبعاد قلب تونس بقوله “في كل ديمقراطية هناك معارضة، لقد اخترت معايير الاختيار للأحزاب السياسية وهي رمزية الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية والإرادة التي عبر عنها الشعب”.
واعتبر محسن مرزوق رئيس حزب مشروع تونس أن استبعاد قلب تونس لم تكن فكرة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، بل فكرة رئيس الدولة قيس سعيد سعيد والأطراف التي تحيط به.
وكتب القيادي السابق بحركة تحيا تونس الصحبي بن فرج في تدوينة على حسابه بموقع فيسبوك أن رئيس الجمهورية يحاول الاستحواذ على صلاحيات رئيس الحكومة ما يعزز القول بتخوف الأحزاب من تداخل الوظائف.
ويكون الفخفاخ أشبه بوزير أول في عكس تام لتوجه رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد الذي شهدت عهدته على شبه قطيعة تامة مع مؤسسة رئاسة الجمهورية والتي بررها مرارا بأنه يؤمن بالدستور وبأن صلاحيات رئيس الحكومة أوسع ولا تلزمه بالرجوع لرئيس الدولة، مما يعني ضمنيا أن تونس ستشهد مشهدين مختلفين تماما من حيث علاقة رئاسة الحكومة برئاسة الجمهورية من شبه القطيعة إلى شبه الانصهار التام.
ويذهب البعض إلى أنه في خضم نزاع الشرعية تقف حركة النهضة في موقف المتربص تتصيد فرصتها لإعادة الأمور إلى صالحها بعد أن سحب البساط من تحت قدميها بإسقاط حكومتها حيث تلقت وقع تعيين الفخفاخ على قيد المساومة وصرح زعيمها راشد الغنوشي بأنه لا مجال للإقصاء واعتبر العديد من قياداتها تعيين الفخفاخ انقلابا على إرادة الناخبين.
ويرى محللون سياسيون في تونس أنه من الغباء تصديق قول النهضة إن قلقها محوره شرعية تعيين الفخفاخ أو أن هاجسها هو اختلاف على برنامج اقتصادي أو اجتماعي؛ فكل هاجس النهضة هو أجنداتها السياسية ومواصلة الحكم من على قاعدة التشتت والتفكك السياسي كلفها ذلك ما كلفها.
ويمثل رفع شعار لا للإقصاء من قبل الغنوشي ودعوته لتشريك قلب تونس عدو الأمس هديته المسمومة للفخفاخ الذي سيخسر ثقة الرئيس ويدخل بيت طاعة الحركة الإسلامية إذا سار في هذا النهج، ومن الجهة الأخرى ففي صالحها استمرار منظومة التوافق وتفتيت المسؤوليات على أساس المحاصصة الحزبية.
ويوحي تلويح النهضة بالانتخابات المبكرة إلى رهانها على الحرب النفسية كوسيلة ضغط لتحسين شروط التفاوض.