التكنولوجيا تهدد بتدمير المهارات الذهنية للأجيال الجديدة

الأجهزة الإلكترونية يمكن أن تكون أدوات مساعدة على التعلم وتنمية المهارات الذهنية والفكرية إذا تم استخدامها بشكل صحي، لكن التبعات السلبية للتعويل الكلي على هذه الوسائل، لا يقتصر فقط على أنه يظهر الناس على أنهم أقل ذكاء مما هم عليه، وإنما يمتد ليؤثر على قدراتهم العقلية ويحرمهم بالتالي من فرص النجاح في الحياة.
يتعلم الأطفال مهارات القراءة والمبادئ الأساسية للغة وعلم الحساب والكسور والنسب المئوية والرسوم البيانية وعمليات التقريب وأيضا الفهم الضمني المتعلّق بالعلاقة بين الأشياء المحيطة بهم منذ مرحلة التعليم الابتدائي، باعتبارها من المهارات الأساسية التي تساهم بشكل كبير في تحقيق النجاح على أصعدة الحياة المختلفة.
لكن مع انتشار الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر اللوحية أصبح هناك اتجاه عالمي في الاعتماد الكلي على هذه الأجهزة، ما أدى إلى حدوث فجوة في المهارات الإبداعية والذهنية للتلاميذ والطلبة.
وفي معرض دراسة معدلات استخدام الأطفال للأجهزة الرقمية، وبحسب بعض الدراسات التي أجريت في السنوات الأخيرة يقضي الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 5 سنوات و16 عاما حوالي ست ساعات يوميا أمام الأجهزة الإلكترونية، وكلما كبروا ارتفع عدد هذه الساعات، ليزيد مع ذلك انغماسهم في العالم الافتراضي واعتمادهم على الأجهزة الرقمية.
لكن في الوقت الذي أصبحت فيه الأجهزة الرقمية، مثل الآيباد والبلاك بيري والآيفون، في متناول معظم الأطفال ارتفعت في المقابل تحذيرات الخبراء في أنحاء مختلفة من العالم من خطورة الهواتف الذكية ومتابعة الوسائط المتعددة على القدرات الذهنية للأجيال.
ويؤكد الباحث جيم تايلور، في كتابه الذي حمل عنوان “تنشئة جيل التكنولوجيا”، أن هنالك العديد من الأدلة قد برهنت أن وسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي والوصول الفوري للإنترنت والهواتف الذكية قد أضرت بقدرات الأطفال.
تغييرات جذرية
يقول تايلور إن وسائل التكنولوجيا من شأنها أن تحدث تغييرا جذريا على الكيفية التي يفكر بها الأطفال وطريقة نمو أدمغتهم، بالإضافة إلى أن اعتماد الأطفال المستمر على الأجهزة الرقمية قد يأتي في غالب الأحيان على حساب أنشطة أكثر قيمة وأهمية من الناحية التنموية، كالأنشطة الرياضية والبدنية التي تعود بالفائدة على الجسم والعقل، وكذلك القراءة التي تعتبر نشاطا إيجابيا، يخلق خيالا واسعا وذاكرة مميزة، ويطوّر القدرة على التحليل والتفكير النقدي، فيما قد تعيق الوسائط الرقمية جميع هذه المهارات.
ويرجّح تايلور أن انتشار المعلومات بشكل واسع، قد بات غير مرتبط بمن يعرف أكثر، بل بالقدرة على التفكير المنطقي والإبداع، وهي المهارات التي تقوّضها الوسائل الرقمية بتحجيم القدرة على التركيز.
ويعلل تايلور رأيه مستشهدا بمارك زوكربيرغ وبيل غيتس وكارل ساندبرغ حيث يعتبر أنهم “لم ينجحوا في عالم التكنولوجيا لقدرتهم على التشفير، بل لقدرتهم على التفكير”.
وأبدت إريكا سويفت، معلمة الصف السادس بمدرسة هيرمان لايمباك الابتدائية في مدينة ساكرامنتو بولاية كاليفورنيا، رأيها الشخصي حول هذا الموضوع مشيرة إلى أن “التلاميذ حاليا يواجهون صعوبة كبيرة في قراءة النصوص المعقدة أو الطويلة على عكس التلاميذ في الماضي الذين كانوا أكثر اعتيادا على متابعة قراءة النص لأمد أطول”.
وتقول إن “تأثّر الطلبة بالتكنولوجيا يظهر في طلب التوقّف بين الحين والآخر والأحاديث الجانبية، وتخلّي البعض عن القراءات الطويلة نهائيا”.
وبينما اتجهت العديد من المدارس حول العالم اليوم نحو استخدام التكنولوجيا الحديثة في الفصول الدراسية، فإن دراسات عدة أظهرت أن التدريس بشكله التقليدي يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل.
وكانت دراسة سابقة أجرتها كلية لندن للاقتصاد قد بينت أن درجات اختبار الثانوية البريطانية قد تحسنت حين منعت مدارس ببرمنغهام ولندن وليستر ومانشستر استخدام الهواتف في الفصول الدراسية.
واستشهد ويليام كليم، أستاذ علم الأعصاب ومؤلف كتاب “دورة مهارات التعلم”، بدراسة أجريت في العام 2014 ووجدت أن الطلاب الذين دوّنوا الملاحظات تدوينا يدويا كاملا كانوا أفضل من الذين استخدموا الكمبيوتر المحمول في استذكار للمعلومات.
انتشار المعلومات بشكل واسع قد بات غير مرتبط بمن يعرف أكثر بل بالقدرة على التفكير المنطقي والإبداع وهي المهارات التي تقوضها الوسائل الرقمية بتحجيم القدرة على التركيز
ورغم أن البعض من الأبحاث أثبتت أن الأجهزة الإلكترونية والوسائط التكنولوجية الجديدة مهمة للغاية في عملية التعلم، لكن لا شك أن الإسراف في أيّ شيء له عيوبه.
وتفيد نتائج الدراسات التي أجريت في هذا الصدد أن الاعتماد المكثف على هذه الوسائل يؤثر فعليا على العديد من وظائف الدماغ.
ولا تقتصر المشكلة القائمة في هذا الشأن على الأطفالw فقط، إذ يواجه 80 بالمئة من البالغين في المملكة المتحدة، صعوبات على صعيد فهم وتذكر قواعد الحساب.
أما في الولايات المتحدة، فتبين أن متوسط الدرجات التي يحصل عليها المنتمون للفئة العمرية بين 16 و65 سنة في إجادة قواعد الحساب، أقل بكثير من المعدلات العادية.
وتحدث الكاتب نيكولاس كار، في كتابه “الضحالة”، عن تأثير الإنترنت على طريقة تفكير الناس حاليا، محذّرا من الأثر الجانبي للاعتماد المكثف على الشبكة العنكبوتية في استذكار المعلومات.
وعدد كار أبحاثا نفسية وسلوكية حديثة كشفت عن الجانب المظلم للإنترنت في حياة مستخدمي الشبكة، مشيرا إلى أن اهتمامه بالأمر ليس دافعه أكاديمي فحسب وإنما فيه جانب شخصي أيضا بعدما شعر أنه يفقد القدرة على التركيز والتفكير العميق ومن هنا كان دافعه لإعداد الكتاب. ويقول إنه حتى وهو بعيد عن الكمبيوتر كان يشعر بتشتت الانتباه وكأنما ذهنه في حالة عطش للمعلومات السريعة.
ووصف الاستنتاجات التي توصل إليها من خلال بحثه في الدراسات العلمية والنفسية حول الموضوع بأنها “مثيرة للقلق”.
وتؤكد الدراسات أن من يقرأون نصا مليئا بالروابط يستوعبون أقل بكثير ممن يقرأون نصا مطبوعا على الورق. ومن يشاهدون عروضا مطعّمة بالصوت والصورة يتذكرون أقل بكثير ممن يتلقون المعلومات بطريقة أكثر تركيزا وأقل بهرجة.
كما أن من يتشتت انتباههم دوما برسائل البريد الإلكتروني والتحديثات والرسائل النصية الإلكترونية يفهمون أقل بكثير ممن يمكنهم التركيز على ما يتلقون.
ويبدو أن التغير فائق السرعة للأجهزة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي جعل المستخدمين يفتقدون العامل الأساسي في التفكير وهو الربط بين ما يتلقّونه وما ترسّخ في الذاكرة من معرفة، وفق ما كشفت الأبحاث.
غنى الذاكرة الشخصية
يعتمد غنى التفكير والذاكرة الشخصية عامة على قدرة الذهن على استحضار المعلومات واستنباط الحلول والأفكار.
لكن وبالرغم من أن طبيعة الحياة العصرية قد تجعل فكرة الاستغناء عن التكنولوجيا أمرا غير واقعي على الإطلاق، فإن الشركات والمؤسسات تشتكي أيضا من أنها لا تعثر على موظفين قادرين على إضافة الجديد للوظيفة التي يشغلونها.
وقد أظهر بحث تلو آخر أن الموظفين الشباب يفتقدون للمهارات المطلوبة للوظائف والتي تتطلب التواصل الكلامي والتفكير الانتقادي والقدرة على التحليل المنطقي، وهذه المهارات جزء حيوي لكنه غير مرئي أبدا في طيف واسع من الوظائف.
وتوصل موقع “كارير بويلدر” لأبحاث العمل، في استطلاع سابق أجراه بين أرباب العمل في بريطانيا والهند، أن أرباب العمل يعتقدون أن الخريجين الجدد يفتقرون إلى مهارات حل المشاكلات (60 بالمئة في الهند و40 بالمئة في بريطانيا) والتفكير الإبداعي (56 بالمئة في الهند و39 بالمئة في بريطانيا) ومهارات التواصل الشخصي (50 بالمئة في الهند و49 بالمئة في بريطانيا).
ولا تزال الدراسات العلمية تبحث في حجم التأثير الفعلي للأجهزة الإلكترونية ودورها في التأثير السلبي على عقول الناس، بدلا من توسيع آفاقهم الفكرية وتدريبهم على التفكير.
لكن رغم ما تحمله هذه الأخبار السيئة من تشاؤم، فإن الخبراء يدعون إلى النظر إليها بموضوعية ووضعها في نصابها الصحيح، والعمل منذ مراحل الطفولة المبكرة على تنمية المهارات الذهنية للأجيال حتى تكون هذه الأجيال قادرة على مجابهة التغيرات المهنية والتنافس الوظيفي المحموم مستقبلا.
ويبدو أن تطور التقنيات المستخدمة حاليا في جميع مجالات الحياة، والتي باتت أصغر في الفترة الراهنة من أيّ وقت مضى، لا يمكن أن تعوّض المهارات الذهنية مثل الهجاء ومعرفة قواعد اللغة والحساب.
وفي واقع الأمر، قد يشكل افتقار المرء إلى قدر معيّن من الكفاءة والبراعة في هذا الشأن عاملا يحول دون حصوله على وظيفة من الأصل، ذلك لأن أصحاب المؤسسات والشركات يقررون عدم منحه فرص عمل إذا كان عاجزا عن القيام بعملية ضرب بسيطة أو بفعل ارتكابه لأخطاء فادحة في المبادئ الأساسية لقواعد اللغة.