إسماعيل قاآني آخر القابضين على كأس السم الإيرانية الشهيرة

أي مهمة سيتمكن سردار شامي من مواصلتها اليوم بعد غياب ظهيره وسنده الأبرز؟
الأحد 2020/01/12
سردار شامي الذي لن يملأ الفراغ بعد سليماني

لطالما تساءل صنّاع الرأي والقادة في العالم العربي، وفي الخليج بصفة خاصة، عن طبيعة النظام الإيراني الذي طالبهم باراك أوباما ومعه هذه الدولة الأوروبية أو تلك بالتفاهم معه، وكثيرًا ما طرحوا المسألة بوضوحها وحرفيتها ”على إيران أن تقول لنا ما هي؛ دولة أم ثورة؟ حتى نتمكن من التعامل معها“. وما جلبته أحداث الأيام العشرة الماضية كفيل بتقديم المعضلة الإيرانية كما هي ودون التباس. فأي مصاب تعرضت له الدولة في إيران باغتيال قائد فيلق عسكري اسمه الجنرال قاسم سليماني، لو لم يكن الأمر متعلقًا بالثورة لا بالدولة، بالكيان العميق الذي يختفي خلف هيكل الجمهورية الوهمية والذي يقوده المرشد وحده بغض النظر عن رئيس وبرلمان ووزراء وغير ذلك.

كان سليماني أكثر من مجرد ضابط، ومكانته قد تصل إلى مرتبة الرجل الثاني في كيان الولي الفقيه بعد المرشد، وكانت مهمته وصميم عمله جوهر المشروع الإيراني ذاته، تصدير الثورة الأيديولوجية وبسط النفوذ والهيمنة بكل صورة ممكنة. هذا أهم بكثير من انتخابات رئاسية ينتقي مرشحيها علي خامنئي، ويرفض هذا ويقرب ذاك، ومن دبلوماسية لا يجري إطلاعها على الكثير من المهام والزيارات كما حصل مؤخرا في زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران التي لم يعلم بها وزير الخارجية جواد ظريف، واستقال احتجاجًا على حجب خبرها عنه، بينما كان سليماني يجلس إلى يمين الأسد في لقائه مع حسن روحاني.

كوابيس السردار

مشاركة قاآني لسليماني في معارك المنطقة الجنوبية أثناء الحرب مع العراق، لم يظهر فيها قاآني الكفاءة العسكرية اللازمة، وهو يتحمل مسؤولية هزيمة نكراء حلّت بقواته حينها في عمليات “بيت المقدس"
مشاركة قاآني لسليماني في معارك المنطقة الجنوبية أثناء الحرب مع العراق، لم يظهر فيها قاآني الكفاءة العسكرية اللازمة، وهو يتحمل مسؤولية هزيمة نكراء حلّت بقواته حينها في عمليات “بيت المقدس"

كان اغتيال سليماني بمثابة طعنة عميقة في جسد دولة الملالي، ولذلك كان رد الفعل بكائيّا جنائزيّا مأساويّا بالشكل الذي ظهر عليه عبر المسيرات المليونية واستنفار أذرع ”البروكسي الإيراني“ في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغيرها، ولذلك كانت لغة الثأر والانتقام عالية. لكن هذا كان وقعه أقل صعوبة على رجل واحد، هو من وقع عليه الاختيار ليكون خليفة لسليماني في مهمته تلك؛ الجنرال إسماعيل قاآني.

في أوساط الحرس الثوري الإيراني يشتهر قاآني بلقب ”سردار شامي“، ويعني قائد البلاد الشامية وفارسها، ما يعكس خبراته في إدارة المهام العسكرية والأمنية في تلك المنطقة، وهو في الواقع يقول شيئا آخر، ففي الوقت الذي اغتيل فيه سليماني، كان المشروع الإيراني يتهاوى في تلك البلاد ذاتها، في لبنان يواجه حزب الله فشلاً ذريعا في البقاء قوة منفلتة خارج الدولة تتقنع بالشركاء الذين انفضوا عنها جميعا، ولم يبق سوى ما لا يحجب حقيقة التفرد بالسلطة وانحياز اتجاه الدولة بالكامل نحو المحور الإيراني. وفي سوريا كان الفشل الإيراني أكثر بروزا وفداحة، وكان مؤشره الدائم صعود الدور الروسي البديل الذي جاء لإنقاذ النظام ومساعدة الإيرانيين على ما أخفقوا وحدهم في السيطرة عليه. وقد تجلى ذلك كله في الزيارة الاستعراضية التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى دمشق في يوم تشييع سليماني، ليقول إنه الآن المتفرد في الساحة السورية وحده، وأن سوريا باتت حديقة خلفية للروس وليس للأسد الإيراني الجريح.

كل هذا كان السردار قاآني يراقبه بعين حذرة غير بعيد عن تعقيدات الوضع الداخلي الإيراني التي بقي بعيدًا عنها بفضل مظلة ”معلّمه“ سليماني. فأية مهمة سيتمكن من مواصلتها اليوم بعد غياب ظهيره وسنده الأبرز؟

ابن مشهد الذي شارك في ما يسميه العالم ”الحرب العراقية الإيرانية“ ويسميه الإيرانيون ”حرب الدفاع المقدس“ في الثمانينات لم يكن محظوظا كغيره بالتنقل ما بين المناصب الحساسة، فقد تولى قيادة فرقة ”الإمام الرضا“ وفرقة ”النصر“، قبل أن يكافأ بتعيينه نائبًا لرئيس هيئة الأركان المشتركة للجهاز الأمني الخاص بالحرس الثوري الإيراني.

أطفال الحرب

مسار قاآني يتسم بالحذر الدائم، وربما التردد، ليس فقط خلال توليه مهامه القليلة، بل منذ اندلاع ثورة الخميني. فقاآني، وعلى عكس رفاقه القياديين اليوم، لم ينخرط في صفوف الثورة على الفور، بل بقي عامًا كاملًا ينتظر ويراقب
مسار قاآني يتسم بالحذر الدائم، وربما التردد، ليس فقط خلال توليه مهامه القليلة، بل منذ اندلاع ثورة الخميني. فقاآني، وعلى عكس رفاقه القياديين اليوم، لم ينخرط في صفوف الثورة على الفور، بل بقي عامًا كاملًا ينتظر ويراقب

أبرز ما يلفت النظر في مسار قاآني هو صفة الحذر التي رافقته، وربما التردد أيضًا، ليس فقط خلال توليه مهامه القليلة، بل منذ اندلاع ثورة الخميني في نهاية السبعينات. فقاآني، وعلى عكس رفاقه القياديين اليوم في المنظومة الإيرانية، لم ينخرط في صفوف الثورة على الفور، بل بقي عامًا كاملا ينتظر ويراقب، كما اعترف بعظمة لسانه في حوار قديم أجرته معه صحيفة “رمز عبور” الإخبارية، حيث قال فيه “كنت حاضراً كبقية الناس“. غير أنه انضم إلى الحرس الثوري في خراسان عام 1980.

أولى مهام قاآني لم تكن في الحرب المقدسة كما يدعي كثيرون، لكنها كانت موجهة ضد الإيرانيين أنفسهم، فقد تم تكليفه بقمع محافظة كلستان، لقمع انتفاضة شعبية قام بها التركمان واليساريون وغيرهم. وكذلك في محافظة كردستان  لمواجهة الكرد هناك. ومن هناك بدأت خبرات قاآني تتعاظم في التعامل مع ظواهر التمرد أكثر من مواجهة الجيوش النظامية.

يصف قاآني علاقته مع سليماني بأنها ناشئة من أن الاثنين كانا من ”أطفال الحرب“. ويتابع قائد فيلق “القدس” الجديد قائلا إن ما يجمع بينهما ”ليس قائمًا على الجغرافيا، فما يربطنا نحن ورفاقنا أننا رفاق حرب. والحرب هي التي جعلتنا أصدقاء. أولئك الذين يصبحون أصدقاء في أوقات الشدة، تجمعهم علاقات أعمق وأكثر دواما من أولئك الذين يصبحون أصدقاء لمجرد أنهم أصدقاء من الحي“، كما يروي علي ألفونه الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.

ورغم أنه شارك سليماني في معارك المنطقة الجنوبية أثناء الحرب مع العراق إلا أن قاآني يتحمل مسؤولية هزيمة نكراء حلّت بقواته في عمليات ”بيت المقدس“ في مجنون صيف عام 1988. ومع ذلك الفشل المبكر، فوجئ الإيرانيون بتعيين قاآني قائدا للقوات البرية للحرس الثوري، ويقال إن العلاقة الشخصية التي ربطته بخامنئي لكون الرجلين قد ولدا في مشهد، ساعدت في تعزيز مكانته، وليس كفاءته العسكرية.

توقفت الحرب. ولم يعد لدى أطفالها، على حد وصف قاآني، ما يفعلونه في ساحات المعارك، لكن كانت هناك ساحات أخرى تنتظرهم، فسرعان ما تم إرسال قاآني إلى خراسان لمكافحة المخدرات والسيطرة على المنطقة القريبة من أفغانستان، الأمر الذي أكسبه خبرة في التعامل مع الأفغان وتركيبتهم السكانية، ليقوم بدور ضد حركة طالبان في التسعينات، لينضم لاحقاً ورسميا إلى فيلق ”القدس“. وتتوسع خارطة حركته في أنحاء عديدة حسب ما تقتضيه استراتيجية الفيلق. وهذا ما أوصله إلى أميركا الجنوبية وإلى أفريقيا ومن بعدها البلدان العربية التي تدخلت فيها إيران.

مستقبل فيلق القدس

أولى مهام قاآني لا تعود إلى انتصاراته الحربية كما يدعي الإيرانيون، بل كانت موجهة ضد الشعب الإيراني ذاته، فقد تم تكليفه بقمع انتفاضة شعبية قام بها التركمان والكرد واليساريون في كلستان وكردستان لمواجهة المدنيين بشكل دموي
أولى مهام قاآني لا تعود إلى انتصاراته الحربية كما يدعي الإيرانيون، بل كانت موجهة ضد الشعب الإيراني ذاته، فقد تم تكليفه بقمع انتفاضة شعبية قام بها التركمان والكرد واليساريون في كلستان وكردستان لمواجهة المدنيين بشكل دموي

قاد سليماني فيلق ”القدس“ بمنهجية تعكس الضرورات التي تمكن دولة الولي الفقيه من الاستمرار، بغض النظر عن استقرار النتائج. فكانت تلك السياسة تقوم على خلق حلقات من النفوذ التي تتوسع وتتقلص تبعاً للتطورات الإقليمية والدولية، من دون أن تكون لها مآلات نهائية، وربما يتجلى هذا في الأوضاع التي وصلت إليها البلدان التي امتد إليها النفوذ الإيراني بشكل كبير، ويبرز العراق كمثال ساطع، فخلال السنوات الماضية بعد انحسار الدور الأميركي في ذلك البلد، سنحت لفيلق “القدس” فرصة طويلة لبسط نفوذه بالكامل، وتمهيد الطريق أمام إنشاء نموذج في الحكم المستقر والموالي لإيران لا ينافسه أحد. ولكن ذلك فشل أيضاً كما فشل غيره. ويجري تحطيمه يوميا تحت ضربات المتظاهرين العراقيين في الساحات، وليس مستغربا والحال هكذا، أن يكون اسم قاسم سليماني قائد فيلق ”القدس“ أكثر الأسماء التي ترددت على ألسنة المتظاهرين منذ أكتوبر الماضي حتى اليوم، في رفض عالي الإدراك من العراقيين لهوية المسؤول الأول عن تدهور الحكم في بلادهم.

ما سيواجهه قاآني أكثر بكثير من مجرد تركة لرجل تمكن من بسط نفوذ إيران ولم يتمكن من المحافظة عليه، فالتحولات التي تشهدها نطاقات ذلك النفوذ تفرض عليه بالضرورة تغيير استراتيجياته، وهو ما يعد من أكثر الإجراءات صعوبة في تاريخ إيران ما بعد الخميني، بل هو بالضبط ما سماه الخميني ذات يوم بكأس السم التي يجب عليه تجرعها بعد صدور القرار الدولي 598 الذي توقفت على إثره الحرب مع العراق.

ولن يجد قاآني ومن خلفه خامنئي سوى طريقين لا ثالث لهما، إما مواجهة الحلفاء قبل الخصوم ومواصلة مشوار الإخفاقات العسكرية خارج الحدود، أو القبول بتغيير السلوك والعودة إلى ما وراء الحدود. ولا ضرورة للإشارة هنا إلى أن أي تغيير بنيوي في سلوك إيران على هذا المستوى سيعني تقويضا فعليا لنظامها في الداخل. وحينها سيكون على قائد فيلق ”القدس“ الجديد أن يقود تلك التحولات، إن لم يلحق بسليماني عاجلاً بيده أو بيد عمرو.

8