بيبسي في زمن الحصار

كماليات وإكسسوارات الحياة اليومية غُيبت تماما وحتى الطعام كان يتم تأمينه من قبل الأسر الفقيرة بحدود متواضعة.
السبت 2020/01/11
مشروب غير آمن

أكثر التجارب سخونة تلك التي تترك أثرا من حمى بعيدة في زوايا ضيقة من جسد الإنسان وروحه، وبعض الحميّات أمراض مزمنة لا تفارق جسد صاحبها لكن حرارتها قد تخفت أحيانا فيخيل للمريض بأنه شفي تماما أو قارب على الشفاء، متناسيا أن المرض المزمن لا شفاء منه.

هكذا كان حديث العراقيين عن الحصار الاقتصادي الذي أذاب قلوبهم كمدا في عقد التسعينات من القرن الماضي؛ ذكريات مرّة، فاقة، ذلّ الحاجة إلى طعام ودواء ورشفة من أمل، كل هذه الكوابيس استيقظت اليوم دفعة واحدة في ضمير المواطن العراقي الذي تذوّق مرارة الحصار الاقتصادي مرغما، بسبب سياسات رعناء تسلط أصحابها على مصائر الناس وكانوا مثل الجاثوم الذي أمسك بتلابيب أرواحهم فلم يستطيعوا منه فكاكا.

كانت حادثة عبوة الـ”بيبسي كولا” حافظت على نصوعها في ذاكرتي حتى بعد مرور أكثر من عقدين ونصف من الزمن، ولأن القدرة الشرائية للمواطن العراقي كانت محدودة للغاية فإن كماليات وإكسسوارات الحياة اليومية غُيبت تماما وحتى الطعام كان يتم تأمينه من قبل الأسر الفقيرة بحدود متواضعة.

 لهذا فإن مشهد شراء كيس من رقائق البطاطا مثلا أو علبة مشروب غازي بدا لنا في حينها مشهدا غريبا نصادفه في الشارع أو أروقة الجامعة، فننظر إلى صاحبه وكأنه مخلوق غريب قادم من كوكب آخر لا يشبه كوكب بلادنا القاتم.

دفع زميلنا جبار ثمن قنينة بيبسي كاملا لصاحب الحانوت مستغلا انشغالنا داخل خيوط حوار بسيط يتعلق بفصل الامتحانات الثقيل، سرعان ما رفع جبار غطاء القنينة التي أحدثت ضجة فاستدارت رؤوس معظم الطالبات والطلاب الذين تواجدوا في المكان لتقصي مصدر الصوت العجيب!

كان سلوكه ذاك أشبه بشرارة احتجاج على واقع مزعج فرض قيمه البغيضة على نفوسنا؛ شعب كامل يستفزه صوت عبوة بيبسي كولا على ممشى لممر في جامعة عريقة بينما يفور قاع الأرض بكنوز النفط والثروات التي لا تعد ولا تحصى، ثروات عصية على أصحاب الأرض الذين يتضورون جوعا ويتوقون لتذوق مشروب غازي لا يتعدى ثمنه نصف دولار!

لا أعرف إذا كان هناك من تجرأ في زمن الحصار على استقدام مثل هذا المشروب المحظور أم أن مكوناته كانت مجرد تقليد ليس إلا، لكن زميلنا الآخر الذي احتفظ برأسه في مكانه ولم يستفزه صوت انفجار غطاء القنينة في رؤوسنا، علق قائلا “هذا المشروب الغازي اخترعه صيدلي أميركي قبل قرن من الزمان كبديل للكحول، وما زالت الشكوك تدور حوله، عموما فهو مشروب غير آمن”!  ابتسم بعضنا ابتسامة كاتب قصة الثعلب، الذي حاول أن يقفز ليلتقط بعض عناقيد العنب المتدلية ولم يستطع الوصول إليها، فظن بأنه حصرم.

انتهى كابوس الحصار التسعيني ودفع الفقراء الثمن كالعادة، لكن الكابوس أنجب كوابيس، ثم انتهى فصل قصير فإذا بالمسرحية تعيد العرض بكامل فصولها على مسرح الحياة العراقية، بيد أن الشعب هو البطل هو نجم الصراع الذي يحظره المخرج من الاستعانة بممثل “دوبلير”، فيمنحه الفرصة لاستنشاق سموم دوره بكامل هواء رئتيه المتعبتين.

 أما السياسي الشاطر فهو الذي يسرع قبل غيره للالتحاق بجمهور العرض، لكنه جمهور بدخل نفسي محدود يمنعه حتى من شراء بطاقة جلوس محترمة، لذلك يقضي وقت المشاهدة كله وهو يحتل المقاعد الخلفية

21