تونس.. أزمة فن أم أزمة تسويق فني؟

تبدو الحياة التشكيلية في تونس بالنسبة للمراقب الخارجي متوقفة. حتى المتابع المجتهد يفقد الحماسة بعد أن تفشل كل جهوده المبذولة للإحاطة بها، ولكن الشيء المؤكد هو أن الباحث سيكتشف أن تونس، كما جرت العادة في كل الأنشطة، كانت سباقة بين الدول العربية في ظهور المدارس والمؤسسات الفنية، ولا نغالي إن قلنا إن التجارب التونسية تركت أثرا واضحا على تجارب فنية بارزة في أوروبا.
بدءا بالرومانسيين، ووصولا إلى أتباع مدرسة التجريد، شكلت تونس مصدر وحي لفنانين غربيين، ويمكن اليوم تتبّع الفنانين التونسيين حول العالم، خاصة فرنسا، بسهولة أكثر من تتبّعهم داخل تونس نفسها.
لن نجانب الصواب لو فسّرنا أن أزمة الفن في تونس سببها غياب النقد الفني، حيث ندرة النصوص النقدية، التي تتصدى لشرح العمل الفني وتقييمه، هي واحدة من أكبر أسباب الفجوة القائمة بين الفنان والمتلقي، ليس فقط جماليا، بل ماديا أيضا.
وبينما ظهرت في دول عربية مثل مصر وسوريا ولبنان والعراق، مطبوعات أنيقة تعنى بالنقد الفني والحياة التشكيلية، غابت هذه الإصدارات عن تونس بشكل كامل.
ولم يصاحب تعدّد المحطات التلفزيونية، الأرضية والفضائية، ظهور برامج تتابع الحركة التشكيلية، وتعرّف بالفنانين وأعمالهم، وهو ما ينطبق أيضا على الصحف المحلية، التي تكاد تخلو من متابعات تعنى بالفن التشكيلي، إلاّ في ما ندر، وهي إن وجدت تأتي على شكل أخبار موجزة، غالبا ليست مُرفقة بالصور.
والغريب أن تونس عرفت وجود العديد من جامعي الأعمال الفنية، أغلبهم من الجالية الأوروبية، الذين اعتادوا التعامل مع هذه الهواية، أو لنقل التجارة بتكتم وسرية، يمكن أن تعزى إلى الرغبة في تلافي أي ضرائب مضافة على الأسعار، أو هي نوع من الاحتكار، حيث تسوّق الأعمال في ما بعد في أوروبا محقّقة أرباحا كبيرة.
هذا التكتم أوقع الفنان التونسي ضحية للاستغلال المضاعف، فهو من جهة خسر الدعم المعنوي والقيمة الاعتبارية، ومن جهة أخرى خسر ماديا، وبينما يحظى نظراؤهم من الفنانين في الدول العربية الأخرى بمعاملة النجوم، والدعم المادي الذي يسهل لهم التفرّغ الكامل للإبداع والبحث والإنتاج، نجد الفنان التونسي يضطر للعمل في مهن أخرى لسد حاجاته اليومية.
ولن يكون من قبيل المبالغة ذكر حالات لفنانين شباب مغمورين، كانوا سعداء لبيع أعمال لهم بمبلغ متواضع لا يتجاوز 50 دولارا، خاصة إذا علمنا أن كلفة إنتاج العمل دون حساب الوقت المطلوب لإنجازه تستهلك نصف المبلغ أو أكثر.
بينما ظهرت في بعض الدول العربية مطبوعات أنيقة تعنى بالنقد الفني والحياة التشكيلية، غابت مثل هذه الإصدارات عن تونس
وبالرغم من البدايات المبكرة لظهور صالات العرض وصالونات الفن في تونس العاصمة، إلاّ أنها لم تتمكن من لعب الدور المطلوب لتسويق الأعمال الفنية وتقريبها من الجمهور. وكانت تونس قد شهدت إقامة أول صالون للفن عام 1894، في محاولة كان الهدف منها جذب أكبر عدد من الرسامين والمعماريين، من أبناء الجالية الأوروبية المقيمة في تونس، للمساهمة في وضع تخطيط للعاصمة على أطراف المدينة العتيقة.
بعد الحرب العالمية الثانية انضم إليهم تشكيليون تونسيون، عرفوا باسم “جماعة مدرسة تونس”، وهم الآباء المؤسّسون للفن التشكيلي في تونس، منهم عمار فرحات وجلال بن عبدالله وعبدالعزيز القرجي وعلي بلاغة وصفية فرحات. وحول تلك الأسماء تجمّعت النواة الأولى لصالات عرض، مثلت عنصر تحفيز للأجيال التي تلت من التشكيليين.
أيضا، أسهمت صالات العرض الرسمية، التي تُدار من قبل مؤسسات الدولة، في التعريف بالتجارب الفنية، مثل رواق الفنون في حديقة البلفدير وقصر خيرالدين ورواق يحيى، إضافة إلى الفضاءات الملحقة بمراكز التكوين، مثل مركز الخزف سيدي قاسم الجليزي ودار الثقافة ابن خلدون ودار الثقافة ابن رشيق والنادي الثقافي الطاهر الحداد ودار سيباستيان في مدينة الحمامات.
وتزايدت في العقود الأخيرة أروقة الفن المعاصر، مدعمة الأروقة القليلة التي أقامتها الدولة، ساهمت في التعريف بالتجارب العصرية، وعملت على تسويقها، من أهمها رواق الشريف “فاين آرت” في سيدي بوسعيد ورواق “صديقة” في ضاحية قمرت ورواق “بشيرة آرت” في سبالة بن عمار ورواق “عين” في صلامبو ورواق المدينة العتيقة. وبينما تركزت هذه الأروقة في العاصمة تونس وضواحيها، شهدت المدن الأخرى انحسارا شبه كلي لصالات العرض.
وكما هو متوقع، شهدت تونس بعد ثورة 2011 انطلاقة لصنف متطوّر من صالات العرض، لم تكتف بتسويق الأعمال التشكيلية في تونس، بل عملت على تسويقها في أوروبا والمشرق العربي، مستفيدة من مناخ الحرية المتاح، لتسويق الأعمال عبر الإنترنت.
وشهدت تنظيم تظاهرات تشكيلية على المستوى الدولي، مثل بينالي تونس للفن العربي المعاصر والملتقى الدولي للنحت وأيام قرطاج للفن المعاصر. وكان مناخ الحرية عاملا مشجعا للمراكز الثقافية الأجنبية لاستدعاء تجارب فنية مرموقة وتنظيم معارض استعادية لكبار الفنانين، مثل المركز الإيطالي دانتي أليجيري والمركز الثقافي الألماني غوتة والمركز الثقافي الإسباني سرفانتس.
ومن أهم الظواهر التي تلت أيضا الثورة، ظاهرة رعاية المعارض السنوية والإعلان عن نقابة لمهن التشكيليين ورابطة للتشكيليين.
هذا الحراك، رغم قيمته، سيبقى أصمّ، إن لم ترافقه جهود نقدية تنصف أعمال الفنانين، ليس فقط في الحقل التشكيلي، بل أيضا على مستوى الفنون الأخرى. ومازال الفنان التونسي الباحث عن المجد والشهرة مضطرا حتى هذه اللحظة للهجرة بحثا عن الإنصاف.
إثبات ذلك لا يحتاج لذكر قائمة طويلة من الأسماء، فالجميع يعرفها. ولكنه يعرفها لأنها صنعت اسمها خارج تونس، البلاد التي تلد المبدعين ليبحثوا عن الشهرة بعيدا عن حضنها.