غزو ثقافي تركي مغلف بالعسل

جامعة ابن خلدون تبييض للحقبة العثمانية أم إحياء لعلوم الدين؟
الأربعاء 2020/01/08
أردوغان من محاولة إلى أخرى

تونس - لم تستطع فترة الخلافة العثمانية على مدى 400 عام أن تترك أثرا بارزا على الثقافة العربية، باستثناء تأثيرات انحصرت في قائمة الطعام وانتشار الشيشة، والطربوش الذي سرعان ما اختفى بانهيار الخلافة.

هذا الفشل لم يمنع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من إعادة المحاولة، هذه المرة عبر صيف جديد فتحت له الدول العربية أبوابها مرحبة ومحتفلة به، بالطبع نقصد به المسلسلات التركية التي غزت الفضائيات العربية.

غزو ناعم بدا للجميع بريئا أو في أسوأ الحالات المقصود منه الترويج السياحي لتركيا.

القوة الناعمة، أو القدرة على الإغراء والاحتواء دون حاجة إلى استخدام الإكراه أو القوة وسيلة للإقناع، مفهوم استخدم للمرة الأولى من قبل، جوزيف ناي، من جامعة هارفارد الأميركية. حيث أكد على أهمية الثقافة والإعلام وسيلتين ناعمتين للسيطرة حلتا مكان القوة العسكرية والحروب، وأحيانا حتى الاقتصاد.

ولعبت الإنترنت، خاصة مع بروز مواقع التواصل الاجتماعي، دورا هاما في تأكيد مفهوم القوة الناعمة بوصفها أداة للسيطرة على الدول، من خلال السيطرة على العقول وصناعة الرأي العام.

استثمرت أنقرة الحادثة الشهيرة في ملتقى دافوس الاقتصادي، 29 يناير عام 2009، والتي شهدت سجالا بين أردوغان، وكان وقتها رئيسا للوزراء، والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، بحضور الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، وأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى.

في تلك الجلسة، تصدى أردوغان لبيريز ومدير الجلسة الأميركي، الذي أتاح الفرصة أمام الرئيس الإسرائيلي للحديث، وحاول باستمرار إسكات أردوغان.

ورغم أن العلاقات بين تركيا وإسرائيل لم تتأثر بسبب تلك الحادثة، إلا أنها فتحت الباب لتقارب عربي تركي، سهل لتركيا فرض رؤيتها على الدول العربية. وكان إنتاج تركيا لمسلسل، وادي الذئاب، الذي تسبب بأزمة دبلوماسية بين تركيا وتل أبيب، أدت إلى سحب السفراء على الرغم أن العلاقات بين البلدين بقيت قوية طوال الوقت.

محاولة لتلميع الصورة
محاولة لتلميع الصورة

المسلسل الذي سبق عرضه في تركيا على خمس قنوات تلفزيونية، تمت دبلجته إلى اللغة العربية، باللهجة السورية، عام 2008، وتم عرضه على قنوات عربية مختلفة من بينها تلفزيون أبوظبي، وروتانا خليجية، وآرت، وحنبعل ونسمة التونسيتان.

عالج المسلسل العديد من القضايا السياسية والاقتصادية، منها الدولة العميقة التي تحكم تركيا، وتطرق إلى الأزمة السورية والعراقية في الجزء السابع والثامن والتاسع. كما تطرق إلى القوى العليا التي تقود العالم وتحاول السيطرة على تركيا لتدير العالم من خلالها.

تسابقت الفضائيات العربية على عرض المسلسلات التركية، وكان مسلسل سنوات الضياع، أو تحت أشجار الزيزفون، ثاني مسلسل يدبلج إلى العربية، ولحق به مسلسل فاطمة والحب الأسود.

تأثر نمط حياة المتابع العربي للمسلسلات التركية، بما في ذلك الوجبات التي يتناولها في المطاعم، بالإضافة إلى شراء منتجات تركية مختلفة، بما فيها الملابس والسجاجيد والشموع المعطرة.

المسلسلات التي تسربت إلى الفضائيات العربية تحت غطاء قصص الحب والرومانسية، سرعان ما تغيرت وتحولت إلى مسلسلات تمجد الحقبة العثمانية.

الحكومة التركية بزعامة أردوغان، تتفاخر بالإرث العثماني، وتعمل على إحياء هذا الإرث بثوب جديد كما تقول. ونجحت إلى حد كبير في استخدام الدراما لترويج فكرة أن أنقرة هي المنقذ للأمة العربية.

إلى جانب الدراما سعت أنقرة لتوظيف جماعات الإسلام السياسي بمختلف توجهاتها، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، الذين يعتبرون أداة طيعة في يد أنقرة، ووصفهم مستشار أردوغان للشؤون الخارجية، ياسين أقطاي، أنهم مروجون لتركيا ومشروعها في العالم العربي، وهم إن وصلوا إلى الحكم سيعملون بإخلاص على خدمة الأجندات التركية في المنطقة.

استفادت أنقرة من الاضطرابات التي رافقت ما سمي بالربيع العربي، وأفول حقبة الدراما السورية، وبعد عقد من السيطرة، جاء الرد من خلال مسلسل ممالك النار.

نجح المسلسل الذي شارك في بطولته فنانون من دول عربية عدة، وأخرجه البريطاني بيتر ويبر، من إثارة جدل كبير، وحرض المشاهدين على أعادة النظر في الفترة التي حكم فيها العثمانيون دول المنطقة منذ نحو خمسة قرون.

يحكي المسلسل قصة آخر سلاطين المماليك، الأشرف طومان باي، الذي هزم أمام جيش السلطان العثماني سليم الأول في مصر عام 1517 في معركة الريدانية، بعدما تعرض لخيانات متتالية على أيدي أمرائه.

فشل الخلافة العثمانية في ترك أثر بارز في الثقافة العربية لم يمنع أردوغان من إعادة المحاولة.

“فتح إسلامي، أم غزو عثماني؟” هذا هو السؤال الذي سيطر على وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي في مصر، وأضحى مادة للنقاش في برامج التوكشو، وكان هناك من اعتبر فكرة “فتح” العثمانيين لمصر “تهمة” يجب محاكمة من يعتقد بها أو يساهم في نشرها.

الصحافي في “اليوم السابع” دندراوي الهواري، نشر مقالا، تحت عنوان “وجوب محاكمة من يعتبر الغزو العثماني لمصر فتحا إسلاميا.. والمشايخ يشوهون التاريخ”.

واستنكر محمد الباز، رئيس تحرير صحيفة “الدستور” ومقدم برنامج “90 دقيقة” على قناة المحور، بث “إذاعة القرآن الكريم” محاضرة لأزهري بعنوان “إنهم يشوهون تاريخ الفاتحين الأوائل”، تمت فيها مهاجمة مسلسل “ممالك النار”، وانتقاد الفنان خالد النبوي.

مقابل ذلك انتاب الغضب مشايخ في مؤسسة الأزهر، ورأوا في المسلسل تشويها لما يعتبرونه فتحا عثمانيا لمصر، حيث فوجئ الجميع بإذاعة القرآن الكريم تستضيف أزهريا، هاجم المسلسل بعنف، وانبرى مدافعا عن سليم الأول، واعتبره فاتحا عظيما تفوق فتوحاته كل فتوحات خالد بن الوليد.

لم ينتظر أردوغان، الحالم ببعث الخلافة العثمانية، أن تغلق في وجهه الأبواب، وما أراد إنجازه عبر بوابة الدراما، يريد أن يتابعه عبر غزو ثقافي ناعم من نوع آخر. وقبل أن يخرج من باب الفن، خطط للعودة من نافذة التعليم.

جامعة مقرها إسطنبول، متخصصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية والإسلامية، تسعى إلى إحياء الحضارة الإسلامية المنفتحة بروح تجديدية مؤصلة، عبر أبحاث بمجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ لتعود إلى الأطفال والشبان ثقتهم بهويتهم الحضارية.

هكذا وصف، رجب شنتورك، جامعة “ابن خلدون”، التي يترأسها. وتتضمن الجامعة كليات متخصصة في الحقوق والعلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخ والفلسفة والعلاقات الدولية وإدارة الأعمال والتربية.

واستطاعت أن تستقطب طلابا من أكثر من 70 دولة، مسجلة بذلك أعلى نسبة طلاب أجانب في تركيا، بينهم طلاب من اليابان والصين وباكستان والدول العربية وأوروبا وأميركا.

العالم، كما يقول شنتورك، “دخل مرحلة جديدة وهي الحضارة المنفتحة، الحضارات لا يمكن فصلها بالحدود الجغرافية، بسبب تطورات الإعلام والتواصل، ونريد تربية جيل جديد مجهز للتنافس والعمل في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ البشرية”.

وتشترط الجامعة أن يجيد الطلاب، بغض النظر عن القسم والتخصص، اللغة التركية والعربية والإنجليزية، على الأقل.

ممالك النار.. الرد على حملات تشويه التاريخ التركية
ممالك النار.. الرد على حملات تشويه التاريخ التركية

فالإنجليزية، حسب شنتورك، هي مفتاح للحضارة الغربية، والعربية مفتاح للحضارة الإسلامية، أما التركية فهي مفتاح للمستقبل، ومن يجمع هذه المفاتيح يكون له أساس قوي في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

أما عن السبب في اختيار “ابن خلدون” ليكون اسما تحمله الجامعة، وهو لقب لعالم الاجتماع الشهير عبدالرحمان بن محمد بن خلدون (1332 – 1405)، فيعزوه شنتورك إلى رغبتهم في التأكيد على أن الجامعة ليست تركية بل عالمية. تعتمد للتدريس فيها على كوادر تعليمية من العالم العربي وأميركا وأوروبا وباكستان.

“هدفنا” كما يؤكد “تعليم الطلاب في فترة العولمة، والاهتمام بتكوين الشخصية، والفتوة، وهي أخلاق الشبان، وقديما في الثقافة العثمانية والثقافات العربية والإيرانية والباكستانية، كانت هناك كتب تتعلق بالفتوة وتكوين الشخصية، فهي مهمة؛ فالعلم وحده لا يكفي للنجاح، يجب أن يكون لدى الطلاب خلق وكفاءات للنجاح، بهدف تجهيز الطلاب للتنافس العالمي؛ فالسوق العالمية منفتحة”.

وتخطط الجامعة لنشر سلسلة كتب كلاسيكية، في التفكير السياسي والأخلاقي الإسلامي، مئة كتاب، جُهّز نحو 50 كتابا منها.. وهناك مراكز بحوث وأساتذة لديهم ميزانية للبحث، أي لكل مدرس ميزانية مستقلة إلى جانب راتبه، لإجراء البحوث فقط.

وبأخذ كلام شنتورك حرفيا فإن الجامعة تسعى “لإعادة إسطنبول مركزا للثقافة والحضارة الإسلامية، ليكون سهلا قدوم العلماء مع وجود اللغات الأخرى، إسطنبول لعبت دورا كبيرا سابقا، ونريد إحياءها (…) نرى أن هناك شكا بالحضارة الإسلامية، ونسعى عبر أبحاثنا إلى إعطاء الهوية الحضارية الإسلامية للشبان والأطفال، ليفخروا بأنهم أبناء هذه الحضارة”.

الأطفال والشبان، حسب شنتورك، لديهم تشويش، لا يعرفون ولا يفتخرون بالحضارة الإسلامية، ولا يوجد لديهم تصور للمستقبل ولا لهدف الأمة الإسلامية”.

ورغم أن نسبة القبول لا تتجاوز 2 في المئة من طلبات الانتساب، يبلغ عدد الطلاب المسجلين حاليا في الجامعة 1500 طالب، وتهدف إلى رفع العدد ليصل إلى خمسة آلاف طالب في المستقبل القريب، يحصل أغلبهم على منح مالية.

الجامعة ليست مجرد مشروع طموح لغزو ثقافي مغلف بالعسل، إنها حصان طروادة يبنيه أردوغان بصبر لتبييض الحقبة العثمانية وبعثها من جديد.

7