قصائد تبدأ بامرأة تشاهد يوتيوب وتنتهي بلحظة هبوط آدم

"كريات الدم الخضراء" يستعرض التاريخ الإنساني في شكل معكوس.
الثلاثاء 2020/01/07
لوحة محمد عمران

انتهى زمن الأبطال وانتهى معهم زمن الشاعر الفارس، حيث حول الشعراء نظراتهم من الكلي إلى الجزئي، إلى الهامشي والمهمل، الذي ينطلقون منه إلى عوالم أخرى، أهملها الشعر سابقا، في اهتمامه المحموم بصورة كلية تخفي وهنا في تعاملها مع العالم.

أسامة حداد:

في ديوانه الجديد “كريات الدم الخضراء” يقدم الشاعر العراقي عامر الطيب إضافة إلى تجربته برؤية مغايرة لما قدمه في ديوانه السابق “أكثر من موت بأصبع واحدة” حيث يبدأ من الحياة وإليها يعود.

تبدأ لعبة الشاعر من العنوان عتبة النص الأولى، والذي يلعب دوره في تحديد هوية النص والإشارة إلى مضمونه ودوره داخل المتن، حيث يبدأ بالمفارقة إذ أن كريات الدم خضراء، وهنا تحمل المفارقة أفقها الدلالي المتسع، فدلالة اللون الأخضر ساطعة إذ أن هذا اللون وهو من الألوان الفرعية ينتج من امتزاج الأصفر بالأزرق، ويدل على البدايات الجديدة، والصحة الجيدة، والأرض، والنقاء، والطبيعة، والتفاؤل، والتجديد المستمر، والقوّة، والنشاط، والحيويّة، والخير، والسلام، بالإضافة إلى الحبّ.

لعبة العتبات

 يحيلنا عنوان المجموعة “كريات الدم الخضراء”، الصادرة عن دار الأمينة للنشر بتونس، إلى أعمال أدبية ونصوص أخرى منها المقدس “وَسَبْعَ سُنْبُلات خُضْر وَأُخَر يَابِسَات” وديوان سعدي يوسف الأخضر بن يوسف ومشاغله وبالطبع فرواية هيرمين هيسة “لعبة الكريات الزجاجية” حيث الكريات دائما أداة للعب وهنا يتجاوزها إلى الدم البرهان على حياة البشر وجراحهم بما يحمله من إشارات متعددة حول الهوية.

 من هنا يبدو العنوان مراوغا في صياغته إذ أن كل كلمة لا تحمل جديدا في ذاتها ولا تقودنا بمفردها، فالجملة وحدة لغوية تحمل في سياقاتها البنائية وظائف اللغة وإشاراتها وقدرتها على التواصل وعلاقات الكلمات بعضها ببعض من خلال لعبتي التعاقب والتبادل، فموضع كل لفظة في الجملة يمثل التعاقب وإمكانية استبدال كلمة بأخرى يشكل التبادل، ومن هنا يشكل العنوان بما يحمله من مفارقة آفاقا دلالية رحبة، ويشكل المقطع رقم 10 مركزا للنص في علاقة هذا المقطع بالعنوان، يقول الشاعر “هل حبك أحمر أو أخضر؟/ إذا كان أحمر فهو دم/ وإذا كان أخضر فهو دم زائد!”.

الشاعر لم يعد هو النبيل والفارس والنبيّ بل الإنسان المهمّش في صراعاته المتواصلة داخل شبكة من العلاقات المعقدة

ومن العنوان إلى الإهداء فالملاحظة التي علينا التوقف أمامها باعتبارها سؤالا في الفن وموقفا منه في اللحظة ذاتها حول قدرة الفن على تغيير العالم، فالأسئلة الكبرى حول الذات والماهية والعالم قد تراجعت، والبطل لم يعد من يواجه الموت بل من يتقبل الحياة، ولم يعد الشاعر هو النبيل والفارس والمحرض/ النبي بل الإنسان المهمش في صراعاته المتواصلة داخل شبكة من العلاقات المعقدة و“ميدوس” تتوالد وتتكاثر حوله أينما ذهب.

 ومن هنا فالخطاب حين يتوجه إلى الثلاثين بالمئة الذين يعتقدون في إمكانية الكلمات أن تغير العالم يتخذ موقفا أيديولوجيا منذ البداية ويوجه خطابا نقديا حادا ضد نظريات عديدة حول الفن ويناهض الشعراء والكتاب الذين لا يؤمنون بقدرة الكلمات على تغيير العالم في انحياز إلى رؤية تراجعت قبل عقود من الآن.

 وتأتي عتبة أخرى تحت عنوان جانبي “البدء” (في البدء كان اللون الأخضر) من تعميق الدلالة حيث الألوان جميعها لم تظهر إلا بعد احتراق الغابة في تناص مع قصص الخلق يكشف عن هوية خلافية مع المقدس والأساطير، ومواجهة مع مسوخ العالم أيضا من خلال التناقض بين الأخضر والحرائق كعلامتين.

نصّ متعرّج

ديوان ينطلق من الحياة وإليها يعود
ديوان ينطلق من الحياة وإليها يعود

 ولا تتوقف هنا العتبات فبعد “البدء” يباغتنا الشاعر بـ“وصية”، يعيدنا من خلالها إلى “ملاحظة” فالوصية تقدم المصباح والكتاب في طريق معتمة كدعوة للمعرفة “الكتاب لتقرأ الأشياء والمصباح لنتوقع نهايتها!” ومن هذه العتبات وهي من مكونات النص التي لا تنفصل عنه بما تحمله من علامات تقودنا إلى القراءة يشتبك المتلقي مع النص الذي جاء في مقاطع مرقمة بلغت 131 مقطعا دون أن تحمل عناوين داخلية ومن خلالها يتشكل مجازا كليا لا يخص كل مقطع بمفرده بل يتجاوز ذلك إلى مجاز كلي يقدمه الخطاب الشعري.

 يحمل كل مقطع أفقه الدلالي وأنساقه الجمالية وهي الآلية التي سبق وأن اعتمد عليها في ديوانه السابق “أكثر من موت بأصبع واحدة” بما تمنحه من حرية وحيوية في آن، يبدأ هذه المقاطع بامرأة على اليوتيوب في اشتباك مع اللحظة الآنية وينتهي بآدم يهبط إلى الأرض للمرة الأولى؛ ليبدو وكأنه يستعرض التاريخ الإنساني بشكل معكوس ويكتب سيرة أخرى للإنسان ويضع أسئلته عن التاريخ، وهو يستعرض التفاصيل اليومية الصغيرة والهامشية ويدون اعترافاته في سرود شعرية متعددة سواء أكان سيرذاتي مرة أم توظيف السرد الحكائي تارة أخرى والمونولوج والسيناريو والمشهد في توظيف لسرود متنوعة داخل بنية السرد الشعري تحمل اعترافات وأسئلة، وتستعرض حيوات وأحلام.

 ولا يتوقف التنوع عند توظيف هذه الآليات إذ أن الشاعر ينتقل بين الجملة الإنشائية والخبرية في مراوغات متواصلة، ولا يحدد نقطة بعينها لكسر الصمت فهو يبدأ المقطع مرة من شبه الجملة “في هذه الأيام” أو من جملة فعلية “كتبت عنك أشياء غريبة” أو من أسلوب نفي “لا أستطيع” أو صيغة أمر أو جملة خبرية تبدو عادية للغاية “الطقس حار هنا” أو إنشائية مثل “لو أننا كلما قلنا كلمة”.

 بداية النص وانطلاقه لحظة فاصلة يولد فيها النص وينمو حيث الديوان قصيدة واحدة تتنامى بشكل متعرّج يبدو عشوائيا، إذ يعمد إلى تفكيك العالم وبعثرته حتى لو بدأ من المعيش واليومي وصولا إلى بداية الخلق فهذا الترتيب العكسي، لعبة من ألعاب النص الذي يمكن ترتيب مقاطعه بأشكال متعددة دون إخلال بالقيم المعرفية أو الرؤية التي تقدمها الذات الشاعرة، وهي ذات جمعية حتى لو هيمن ضمير الأنا على النص إذ ينتقل النص من حالة إلى أخرى ومن سؤال لما يليه وتلتبس الذات في صور متعددة من العاشق إلى المهمش والمنعزل والبطل، حتى الأنثى ليست دائما الحبيبة ولا الأم ولا الوطن أو الحلم بل كل هؤلاء عبر تصورات متعددة، و”الرجال المهزومون/ يغرقون جميعا/ بالنوم/ خائفين من الشائعات الكثيرة عن بغداد!”. أو قوله “أنا جدير بأن أرى غير ما أراه الآن/ من نساء وصور/ وغيوم/ فهل علي أن أغير مكاني؟”.

وتبدوالمفارقة بمستوياتها واحدة من الآليات التي يعتمد عليها النص وتتشكل من خلالها علاقات جديدة بين عناصر ومكونات العالم في سلاسة وتلقائية برغم أن بعض المقاطع جاء مباشرا وذهنيا مثل المقطع 16 الذي يقول فيه “متى تموتين يا آلهة الشرق/ بالطريقة التي تجعلنا نتوقف عن شراء آلهة آخرى”.

 هذا الموقف الفكري يبدو ذهنيا ويبدو السؤال خارج الخطاب الشعري الذي يحمل تأويلات متعددة يبدو المشهد العراقي حاضرا بقوة ومحاولة البحث عن الحياة وسط الدمار والخوف بالتسلل إلى الذات مرة والتاريخ مرات بحثا عن كرات دم خضراء تنبت منها الحياة.

14