عباس بوخبزة يدخل باريس حاملا تونس على ظهره

عباس بوخبزة هو فنان تشكيلي تونسي، عصامي التكوين، تتلمذ في مشغل الفنان عبدالرزاق الساحلي. منه تعلم المزاوجة بين خامات وتقنيات مختلفة، وهي تقوم على ردم الهوّة بين الشكل الفني والموضوع المتداول، وتنزع إلى اللانهائي، لتصبح اللوحة جزءا من عالم شاسع ممتد يعجز الإطار عن حجزه.
لم يبالغ الفنان السويسري بول كلي عندما وقف على أبواب القيروان، في أبريل عام 1914، معلنا “اليوم فقط أصبحت رساما”.
متأثرا بقراءته كتاب “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي” للشاعر غوته، شدّ كلي الرحال إلى تونس، “كان الجو الصافي يثير في النفس أجمل الوعود”، وكان الدخول إلى تونس كما الدخول إلى مهرجان من الألوان، “أسرني اللون، لا أحتاج إلى البحث عنه، لقد تملكني إلى الأبد، أعرف ذلك المعنى السعيد لهذه اللحظة: أنا واللون بتنا شيئا واحدا”.
ماذا منحت القيروان للفنان، الذي سيعرف في ما بعد بوصفه واحدا من المساهمين البارزين في تأسيس مدرسة التجريد، ولم تمنحه إياه سويسرا بلده الأم، وألمانيا البلد الذي عاش فيه. بل لم تمنحه إياه باريس التي كانت في ذلك الوقت عاصمة للفن، وقبلة الفنانين التشكيليين؟
ليست تونس، التي سبق للفنان الفرنسي هنري ماتيس والروسي فاسيلي كاندينسكي أن اكتشفا سحر الجنوب فيها، مجرد بحر وشمس، كما سُوّق لها.
يقول الفنان التونسي، عباس بوخبزة، ابن جزيرة جربة، إن لكل حوش (منزل) في الجزيرة حكاية، وكل باب فيها يروي قصصا.. من طقوس الولادة، إلى مراسم الختان وحفلات الخطوبة والزفاف، وطقوس الموت؛ قصصا تلج إليها عبر أبواب مواربة.
الفنان بوخبزة، تابع ما بدأه كلي وماتيس وكاندينسكي، استطاع رغم أنه ولد هناك، أن يحافظ على لحظة الدهشة المرافقة للانطباع الأول.
وكما أستاذه الفنان التونسي الراحل عبدالرزاق الساحلي، يعفي بوخبزة لوحاته من الإطارات، ليدعم الإحساس باللانهائي، تماما كما هو الحال مع الأعمال الفنية الإسلامية، حيث لا بداية ولا نهاية، فقط رموز وإيحاءات، تغزو أرضية اللوحة. ولا غرابة بعد ذلك أن يصنّف بوخبزة نفسه واحدا من أتباع مدرسة التجريد.
ومن سخرية الأقدار أن يأتي كاندينسكي وكلي إلى تونس قادمين من أوروبا، ليعلنا فيها، كما أعلن من قبلهم ماتيس، عن ولادتهم الفنية واكتشافهم اللون الذي أصبحوا جزءا متوحدا معه.
هذه النزعة الصوفية، وهذا التوحد العضوي مع اللون الذي يميّز أعمال بوخبزة، لم يكشفا النقاب عنه في تونس، التي رحل عنها الفنان عام 2013، متجها إلى باريس حاملا جزيرة جربة، مسقط رأسه، في حقيبة فوق ظهره، كما قال يوما “باريس، فتحت لي أبواب العالمية”، وحجب النصف الآخر من العبارة، “وتونس أقفلتها”.
ما كان لفناننا أن يدخل باريس، وما كان لباريس أن تستقبله لو أنه لم يخرج إليها رساما. هكذا استقبلت من قبله كاندينسكي، وكلي وعشرات بل مئات غيرهم. واحتفلت بهم.
رحل بوخبزة إلى باريس في إطار البرنامج الفرنسي “مواهب ومهارات” الموجه إلى مبدعين شباب، واختيرت أعماله للعرض في قصر الأمم المتحدة بجنيف، بمناسبة اليوم العالمي للسلام.
يقول بوخبزة، إن باريس هي ملهمة الفنانين والشعراء. وهنا نختلف معه. ما ألهمته تونس لفنانين وشعراء يفوق بكثير ما ألهمته باريس.
لم تكن باريس يوما مصدر إلهام، بل كانت حاضنة تجذب إليها فنانين وشعراء ومبدعين، لم تعرف بلدانهم كيف تحتفظ بهم. حتى الفنانين من ذوي الأصول الفرنسية، كان الشرق وشمال أفريقيا مصدر وحيهم وإلهامهم، بعضهم جاء إليه بالصدفة، وأكثرهم جاء متأثرا بتجارب آخرين سبقوهم إلى هناك.
معرض الفنان التونسي في جنيف، “حوش وبيبان”، تضمن 16 لوحة تمحورت حول رمزية الأبواب في جزيرة جربة، قال عنها بوخبزة إنها أبواب مشرعة للتعايش بين الأديان والعرقيات. وحمل المعرض هاجسين. الأول، هو التعريف بمسقط رأسه جزيرة جربة ومن ورائها تونس. والهاجس الثاني، التعايش بين الأديان في جزيرة جربة.
ويؤكد الفنان أن المعرض لبنة أولى في إطار مشروع أكبر هو متحف للسلام في جزيرة جربة، التي تعرف بجزيرة الأحلام.
لم تكن باريس يوما مصدر إلهام، بل كانت حاضنة تجذب إليها فنانين وشعراء ومبدعين، لم تعرف بلدانهم كيف تحتفظ بهم
أعمال الفنان المنفذة بألوان الباستيل والأكواريل والأكريليك، سيمفونيات لونية، يطفو المشاهد على سطحها. قد تمنحه الشعور بالسلام والانسجام والتعايش، ولكنها أبعد ما تكون عن منشور سياسي. ورغم أن بوخبزة يؤكد أن الشأن السياسي لا يعنيه، وأن ما يشغله هو الفن والإبداع، إلّا أنه يعتقد أن بإمكان الفن أن يلعب دورا بارزا في نشر ثقافة السلام ونبذ الحروب.
كنت أتمنى أن يقتصر حديث الفنان على اللون والضوء، كما اقتصر حديث كلي وكانديسكي من قبل على تلك العناصر المكونة للوحة.. خاصة بعد أن صنف بوخبزة نفسه واحدا من الفنانين المعنيين بالتجريد.
الأمم المتحدة لم تختر بوخبزة لتسويق شعارات سياسية، بل اختارته، ورحبت باريس بإقامته فيها، لقيمته الفنية والإبداعية.
العالم سينظر إلى أعمال الفنان عباس بوخبزة، ولن يلتفت إلى أقواله. ومن المؤكد أن تلك الأعمال تستحق أن يُطال النظر إليها، فهي وبعيدا عن البروباغندا، ستنقلنا حتما إلى عوالم مليئة بالانسجام. وتلك قيمتها الحقيقية التي اكتشفتها باريس، ولم يُلتفت إليها في تونس.