عبدالعزيز جراد أكاديمي يلتمس خلاصا للجزائر

ما إن تم الإعلان عن اسم الوزير الأول، عبدالعزيز جراد، حتى تقاطرت التحاليل وهللت الأصوات من هنا وهنا في عموم الجزائر، بين رافض ومتعجب ومبارك وساخط ومتقرّب وفاهم. وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالأخبار الكثيفة والكثيرة الصادقة والكاذبة عن سيرة ومسار الرجل من النشوء إلى الارتقاء. من معمعة السلطة إلى خارج لعبتها. من بطل ومغوار في الاستراتجيات والجيوبوليتيكا إلى صاحب كفاءات عالية. من الرجل المناسب للمرحلة وسيدها إلى رجل التفاهمات الذي سيُصلح ما تكسّر وضاع وفسد. من آمل بعودة الثقة بين الحاكم والمحكوم، بين الراعي والرعية، إلى ماد ليديه وفاتح لذراعيه للجميع دون تمييز بين فصيل وآخر، بين معارض وموال، بين إسلامي وعلماني، ليبرالي واشتراكي وغير ذلك الكثير.
التعيينات الملتبسة
كان وقعُ إعلان التعيين، الذي ستليه تعيينات أخرى أكثر غرابة وستثير علامات الاستفهام، مفاجئا وسريعا على غير العادة. فمثل هذه التعيينات كانت توزن في بورصة الهمس والتكهنات والتسريبات والمغالطات والقيل والقال.
الجزائريون في ما مضى من عمر دولتهم، على الأقلّ حتى شهر فبراير بداية الحراك، كانوا لا يولون الكثير من الأهمية للمناصب العليا فيها، لقناعتهم أن تلك المناصب لن تخرج عن فلان وعلان مهما طال عمره أو قصر، تخضع لمنطق التدوير من منطقة إلى منطقة. خاصة منطقة الشرق الجزائري والتي ينحدر منها الوزير الحالي جراد المولود بتاريخ 1954 بمدينة خنشلة. فقد بقي نفوذ الشرق الجزائري سائدا ومهيمنا ومسيطرا على مفاصل الدولة من أعلى هرمها إلى أسفلها، يصنع القرار والمصير بين يديها وفي ظلها، حتى مجيء بوتفليقة أين قلب المعادلة وأصبح الغرب ممثلا خاصة بمدينة تلمسان مسقط رأس الرئيس هي صاحبة الحل والربط في الدولة.
تكاد تكون هذه التعيينات حكرا على نموذج وحيد أوحد وثابت، حتى أن بعض المواقع شبّهت جراد بالوزير الأول السابق المسجون أحمد أويحيى، في الشكل والمظهر وحتى في طراز النظارات. هو نموذج للمسؤول، طيّع، وفيّ، خدوم، ومتوازن، لا يلتفت، ولا يقرر، ولا يخبط على الطاولة، ولا يعارض، ولا ينافس، ولا يحتج دون أن يأخذ الإذن ممن هم أعلى منه مرتبة في سلّم الحكم، خاصة من طرف العسكر وتحديدا من المخابرات.
مرحلة تغيير الرموز
اجتهدت وسائل الإعلام الرسمية التابعة للرئاسة عبر برقية في تقديم سيرة ناصعة للوافد الجديد إلى الوزارة الأولى، فهو أكاديمي ودبلوماسي سابق، أستاذ جامعي في عدد من الجامعات الجزائرية والخارجية، حياته المهنية الطويلة حافلة ومتميزة، أهّلته لشغل مناصب حكومية هامة، من أبرزها عمله أمينا عاما لرئاسة الحكومة الجزائرية بدايات التسعينات من القرن الماضي، خلال حكم الرئيس الجزائري الأسبق ليامين زروال، وقبلها عمل أيضا في منصب مستشار في الرئاسة.
وقد ساهم جراد، قبل ذلك، في تكوين كوادر الدولة الجزائرية وجهازها الإداري عندما كان مديرا للمدرسة الوطنية للإدارة، كما شغل مديرا عاما للوكالة الجزائرية للتعاون الدولي، ولم يتم حذف معلومة المنصب الذي تولاه خلال حكم الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة وهو منصب أمين عام وزارة الخارجية، وبالطبع أشير إلى أنه كان قد ألّف عددا من الكتب في الجيوبوليتيكا والاستراتيجيات السياسية والعلاقات الدولية وغيرها من المواضيع.
بين قبوله مهمة الإشراف على تشكيل الحكومة ووجوهها وتصريحه الذي قال فيه عقب خروجه من مكتب الرئيس تبون “نحن اليوم أمام تحد كبير من أجل استرجاع الثقة في مجتمعنا”، وتأكيده على ضرورة “العمل سويا مع كفاءات الوطن وإطارات البلاد والمواطنين والمواطنات من أجل رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والخروج من هذه المرحلة الصعبة”، وبين تصريحاته السابقة التي نشرت هنا وهناك والتي اصطف من خلالها وراء الداعين إلى “مرحلة انتقالية تعتمد على تغيير الرموز، وتعيين لجنة سياسية لتسيير هذه المرحلة، ووضع خارطة طريق تحدد أجندتها، ومدتها بستة أشهر”، و”ضرورة رحيل رموز النظام السابق”، وغيرها من الأقاويل والحكم والمأثورات، تعطي قراءة أولية عن شخصية الوزير الأول ورؤيته القادمة، فهو يعرف جيدا أن هناك حراكا مستعصيا وشارعا بات مفتوحا على كل الاحتمالات والتوقعات. فهو يرفض كل مآلات السلطة وما قامت به لحد الآن، حتى ولو كانت هذه السلطة الآن مثلما يتردد شرعية وبرئيس منتخب، وما يتم الترويج له من قدوم الوزير جراد من قلب الحراك يعرفه جيدا ومختبرا قلاقله ورغباته وطموحاته، وما قبوله هذه المهمة الشاقة المكلفة إلا ليُسهم في حلحلة هذا الضيق وهذا الأفق المسدود.
تقلبات وتجاذبات
للسياسة بريقها ولمعانها وإغواءاتها وظروفها ومتغيراتها ومواقيتها، وهي بكل الأحوال سياسة تجترح المناورة والتعديلات في الموقف والرأي والتقدم بخطوة هنا وتأخيرها هناك، وهي تكتيكات سيلجأ إليها جراد صاحب البصيرة في فهم التقلبات والتجاذبات والصراعات وموازين القوى، سيلعب أولا في ملعب السلطة التي يعرفها جيدا حيث كان ضمن طاقمها النافذ في سنوات الأهوال والدم والإرهاب، ومن بعدها في سنوات الصلح والمصالحة والاستقرار، وبالمقابل سيحاول أن يُنصت إلى الحراك وسيعمل على بناء جسر عال وصلب من الثقة معه.
الجزائريون في ما مضى من عمر دولتهم، كانوا لا يولون الكثير من الأهمية للمناصب العليا فيها، لقناعتهم أن تلك المناصب لن تخرج عن فلان وعلان مهما طال عمره أو قصر، تخضع لمنطق التدوير من منطقة إلى منطقة
إلى أي درجة يمكن لجراد أن يجسّد نموذجا مختلفا من الحكام الذين تقلّدوا مناصب القرار في الجزائر، وهل فعلا يمكنه أن يخلق الفرق والتنوع والتمييز مثلما يروّج لذلك، نظرا إلى كفاءاته العلمية الكبيرة والتي يتم الإشادة بها بقوة عبر كافة الوسائل الاتصالية، بدهشة أحيانا وبغرابة أحيانا، وبفخر واعتزاز، وبنوع من الحيرة، وكأنّ الجزائريين يكتشفون لأول مرة في حياتهم شخصية علمية، سابقة على زمنها، ومتفوقة، وخارقة للعادة.
في ظل راهن معقّد كراهن الجزائر، كل شيء يمكن أن يكون ملجأ، ومفازات، وأطواق نجاة، وبحار أمان، قد يبحث الجزائري في الوزير الأول عن أخطائه وزلاّته وعثراته، وقد تخرج له تصريحات كثيرة متوفرة عن دعمه لترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة، وقد يثبت انتماؤه الحزبي إلى جبهة التحرير الوطني المغضوب عليه من الحراك، وقد تنشر معلومات خاطئة أو صحيحة عن شراكات تجارية بين أبنائه وأبناء الرئيس تبون، وقد يتصدر في المستقبل واجهة الأحداث، ويكون عرضة للانتقادات الحادة خاصة بعد أن تعرف تركيبة حكومته وهل هي فعلا ستكون شبابية مثلما صرّح به الرئيس تبون؟
كل شيء جائز، فالرجل قد دخل دائرة الضوء بعد أن كان تجسيدا فعليا للرجال الذين كانوا يشتغلون في الخفاء والستر، ولا يعرف لهم أي دور علني واضح في سرايا الحكم سوى ما يرشح كقطرة ماء، لذا كانت مفاجأة تعيينه وإخراجه كما يقال من خزانة الانتظار واللاتوقع واللاحسابات الكثيرة التي تأتي من لدن الكل؛ ساسة وإعلاميون ومهتمون ووشاة وذباب وقناصة وفاعلون وكومبارس، مفاجأة تعاملت معها الدوائر والأوساط
والوسائط كل حسب مقامه ورؤيته وفهمه لما يزمع فعله الرئيس المنتخب بهذا التعيين الذي ستظهر نجاعته خلال أيام وما سيترتب عن هذا الاختيار.
كلمات سحرية
العنوان العريض الذي صدّر به جراد تصريحه الأول لوسائل الإعلام هو كلمة ”الثقة“. أما الواقع اليوم ففي محنة كبيرة. السلطة في حرج دائم، والشارع مكفهر الوجه لا يعترف. قال إن النظام يجدد جلده ويلمعه، وما جراد إلا واحد منه، واجهة براقة لجيل كامل حكم الجزائر وأسرها بين يدي مجموعات وعصب وزمر تحولت خلال السنوات العشرين الماضية إلى عصابة أكلت ونهبت وأفسدت وخلخلت نسيج المجتمع وأصبح يكفر بها ليل نهار، لا يلوي على شيء، وانتفض ضدها في 22 فبراير، كاسرا الخوف والعجز والخنوع، وما تبقى من هواء الثقة التي ستكون محل خطب وهمّ ومسؤولية جراد، تبدد في السماء وغاص في الأرض.
يلزم جراد، كما يقول المتتبعون، معجزات مبتكرة ليحسن الحفر ويسترد ما غاص في أعماق السراديب والأنفاق والمتاهات. يدرك أن الحراك هو الخط الفاصل الذي سيمكّنه من عبور المجاهيل التي تتربص بالجزائر، واحتمالات الفشل قائمة كما احتمالات النجاح، وما لم يتمتع بخيال فذ للتعامل المتعدد مع هذا الحراك المتوحد على صوت واحد، صوت الرفض والسخط، فلن يكون بمقدوره التقدم أو حتى النظر إلى المستقبل، ومهما كانت مغريات الحلول التي يمكن تقديمها إلى بعض رموز الحراك أو للحراك نفسه فلن يكون كافيا.
إعادة الثقة لا تأتي من مكاتب فاخرة أو من شاشات التلفزيون أو من وراء الحجاب. الثقة تأتي بالاحتكاك مع هذا الجيل الذي ينزل كل ثلاثاء وجمعة إلى الشارع مفترشا الأرض وملتحفا السماء.. ولما نقول الاحتكاك يعني التماس والأخذ باليد والسماع بالأذنين.. هكذا يقول الحراكيون الحقيقيون وليس أولئك الين دسوا في ثناياه التخالط والمصالح والأنانيات المفرطة في البشاعة وحب الظهور.
الوزير والشارع المتحرك
لن يعود الشارع إلى البيت هي القناعة الوحيدة الآن لا غيرها التي يتمتع بها الحراك، وجراد، كما يقول أحد الخبراء، عليه تنقية الصوت والصورة، والتقرب أكثر من الواقع، فجراد الأكاديمي والأستاذ والمحلل غير جراد الوزير الأول. سيختلف الأمر؛ في الجامعة التنظير والتحليل. في الوزارة التطبيق والتنفيذ. أسئلة الحراك في الجامعة هي أسئلة الثورة والانتفاضة والأحلام والتغير. في الوزارة هي البحث عن الأجوبة والحلول والخلاص. الحراك في الجامعة هو: كيف يمكن أن يستمر لتحقيق أهدافه وروحه. وهو في الوزارة: كيف نستثمره لخلق جيل واع بالتحديات ومُقبل على المستقبل. القلق الموجود في الشارع مفيد لكي يطلق الوزير الأول خططه وتصوراته، ويثبت نجاعة وصدقية وحذاقة رؤاه وصواب تحاليله العلمية المنثورة في المجلات والكتب. هذا ما يقوله زملاؤه الأساتذة وهم يفتخرون بهذا المنجز الذي حظيت به مهنتهم عن طريقه، ووصولها إلى هذا المستوى والرتبة في صناعة القرار بعد عقود من النبذ والإقصاء والتهميش الذي عانت منه النخبة الجامعية من طرف الساسة وأصحاب الحل والربط.. وهو تحدّ صارخ لقياس مدى قدرة وقوة الأكاديمي في تسير دفة المجتمع من البوابة الواسعة للحكم.
هل سيكون الوزير الأكاديمي شريكا فاعلا في استكمال مشروع بناء الدولة الجزائرية التي تعثرت ولفقت لها أساسات بنيان متهاو، يترنح ويكاد يسقط من هول الصدمات والمكائد والدسائس التي وقفت ضدها المؤسسة العسكرية وخيرة أبناء هذا البلد؟ دسائس حالت دون أن يتمكّن المجتمع من النهوض والرقي.
سيكون جراد في مواجهة هذا الامتحان الصعب والشرس وغير قابل هذه المرة للتراجع للوراء، فالشارع يوشك على الانفلات والعصيان والغضب، والحدود مثقلة بالغليان والنار، والاقتصاد مهلهل، والجزائر كلها بما فيها وعليها مفتوحة على لحظة مجهولة غامضة قد تجرّها إلى الهاوية والانتحار.