"ثورة ناعمة" تقودها رائدات التكنولوجيا لتطوير المجتمع العلمي

يُقبل عدد متزايد من النساء بشغف على علوم الكمبيوتر وصناعة التكنولوجيا، لكن التحدي الحقيقي الذي يواجهنه يتعلق بالهوة بين الجنسين، غير أن ذلك لم يمنع الحديث عن دور “أمهات التكنولوجيا” في المجتمع العلمي الذي أصبح لا يقل أهمية عن دور “آباء التكنولوجيا”، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة التي يعيشها العالم اليوم.
لم يعد الذكاء الاصطناعي وعلوم الكمبيوتر من المجالات التي يحتكرها الرجال، بل ثمة “ثورة ناعمة” تقودها نساء لتغيير الصورة النمطية السلبية عن دور المرأة في المجتمع التكنولوجي، وتعزيز التكافؤ بين الجنسين في مختلف الحقول العلمية.
وبات الحديث عن دور “أمهات التكنولوجيا” في المجتمع العلمي لا يقل أهمية عن دور “آباء التكنولوجيا”، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة التي يعيشها العالم اليوم، ما أتاح للنساء الطموحات فرصة إثبات براعتهن وذكائهن في مختلف المجالات الحيوية، وخاصة المجالات ذات التأثير المباشر والإيجابي على نمو المجتمعات وتطورها.
ومع دخول العالم عصر ثورة الاتصالات والمعلومات، بدأ عدد كبير من النساء يقبل بشغف على دراسة علوم الكمبيوتر والحوسبة والهندسة والعلوم بمختلف فروعها، وبانتشار الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم باتت الحاجة إلى تحقيق التكافؤ بين الجنسين في هذا القطاع تتخطى هدف المساواة، وخصوصا أن التنوع يمثل جزءا لا يتجزأ من التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي الذي يأخذ شكل برامج خوارزمية، بالإضافة إلى أن غالبية تقنيات “الذكاء الاصطناعي” أصبحت تمس جوانب كثيرة من حياة النساء بشكل أو بآخر.
وتقول الدراسات التي أجريت في هذا الصدد إن الصورة الدولية الكبرى على المدى الطويل تظهر أن التحسن في التحصيل العلمي لدى الفتيات كان عاملا رئيسيا في دفع عجلة النمو الاقتصادي في البلدان المتقدمة.
وأظهرت الأبحاث والخبرات الكثيرة والمتزايدة أن التمكين التكنولوجي للمرأة قد لا يصل بالأمور إلى مستوى الكمال، إلا أنه لن يتيح فقط للنساء القدرة على الوصول إلى البنية التحتية والمعدات الكمبيوترية، وإنما أيضا الارتقاء بمهاراتهن وتفعيل دورهن ووضعهن في الإطار الاقتصادي الصحيح، حيث تحقق خدمات الاتصالات العديد من المزايا للمرأة، بداية من الاستقلال الاقتصادي وتوفير فرص العمل وانتهاء بالأمان الاجتماعي.
النساء ركائز العلوم
ولسنوات طويلة ساد الاعتقاد بأن النساء أقل ذكاء من الرجال، ما جعل مجالات العلوم والتكنولوجيا خاضعة لهيمنة الذكور، على الرغم من أن المرأة هي التي وضعت الركائز الأساسية لعلوم الحوسبة التي لا تزال الكثير من فروع هندسة البرمجيات تعتمد عليها إلى اليوم.
وتعد ستيفاني شيرلي رائدة من رائدات صناعة الكمبيوتر وحقوق المرأة خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وتمكنت من جمع ثروة قدرها 150 مليون جنيه إسترليني، تبرعت بمعظمها للأعمال الخيرية.
ولدت شيرلي في مدينة دورتموند الألمانية عام 1933 باسم فيرا بوشتال، لأب يهودي يعمل قاضيا. وكانت واحدة من عدد قليل من النساء اللواتي ساعدن على كتابة برامج الكمبيوتر، بما في ذلك برنامج جهاز الكمبيوتر “إرني” الذي كان يختار بشكل عشوائي الفائزين بجائزة السندات الحكومية الأعلى قيمة.
وفي عام 1962، تركت ستيفاني وظيفتها لتنشئ شركتها الخاصة التي أطلقت عليها اسم “فريلانس بروغرامرز” (مبرمجون غير متفرغين). وكان الهدف من الشركة تصميم وبيع أنظمة برمجيات للعدد المتزايد من الشركات التي كانت قد بدأت في تركيب واستخدام أجهزة كمبيوتر في عملها.
وتعهدت شيرلي منذ اليوم الأول بألا توظف في شركتها إلا إناثا فقط حيثما أمكن، وأن تعطي الأولوية للنساء اللاتي لديهن أطفال وفي أمس الحاجة إلى العمل، مع السماح لهؤلاء السيدات بالعمل من المنزل، كي يتسنى لهن التوفيق بين العمل والقيام بواجبات الأمومة. وكان ذلك بمثابة خطوات غير مسبوقة في بداية الستينات من القرن الماضي.
وطالبت شيرلي الشركات التقنية، مثل غوغل وفيسبوك، بإحداث تغييرات مهمة من أجل إصلاح قلة عدد المبرمجات الإناث، وذلك عبر تطبيق آلية التوظيف المجهول.
ويصل عدد النساء في غوغل إلى نسبة 30.9 بالمئة فقط، مقارنة بـ32 بالمئة في شركة أبل و36 بالمئة في فيسبوك، ويبدو أن نسبة النساء في غوغل تزداد بوتيرة بطيئة، منذ أن بدأت الشركة في إصدار تقرير التنوع في عام 2014 والذي وصلت فيه نسبة السيدات إلى 30 بالمئة.
ولا تمثل شيرلي استثناء، بل يوجد العديد من النماذج النسائية الأخرى التي برزت في مجال الكمبيوتر وصناعة التكنولوجيا مثل جويس ويلر، وهي واحدة من أوائل الأكاديميين الذين استخدموا كمبيوتر إدساك، وماري كومبس، وهي أول مبرمجة من النساء في مكتب ليونز الإلكتروني، وكاثلين بوث، الباحثة الأكاديمية التي كتبت أول كتاب في مجال البرمجة بلغة أسيمبلي الخاصة بالكمبيوتر.
40 بالمئة من العلماء والمهندسين وخبراء التكنولوجيا الأعلى كفاءة هم من النساء
وبمرور الوقت تسارعت التطورات التكنولوجية، وبالتوازي مع ذلك ظهرت موجة جديدة من النساء الموهوبات في صناعة التكنولوجيا، ممن استطعن تبوؤ مراكز قيادية مرموقة، فجلبن أنظار العديد من شركات وادي السيليكون في الآونة الأخيرة، كما أن البعض منهن اكتسبن شهرة واسعة في هذا المجال، مثل سوزان وجسيكي (المولودة لأم روسية وأب بولندي أميركي) وهي الرئيسة التنفيذية لشركة يوتيوب، وأيضا سيدة الأعمال البريطانية روث بورات المديرة المالية لشركة ألفابيت وغوغل، التي شغلت سابقا منصب المديرة المالية ونائبة الرئيس التنفيذي لمؤسسة مورجان ستانلي المصرفية.
وتقول تقارير حديثة إن ما يقرب من 40 بالمئة من العلماء والمهندسين وخبراء التكنولوجيا الأعلى كفاءة هم من النساء، وقد أتاح صعود نجم الذكاء الاصطناعي الفرصة أيضا لنساء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكسر السقف الزجاجي الذي كان يحول دون اقترابهن من عالم التكنولوجيا.
وكشف تقرير ذي إيكونوميست أن حصة النساء من المشروعات الرقمية تصل إلى 35 بالمئة في المنطقة، فيما تصل حصة النساء إلى 10 بالمئة في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، لا تزال الكثير من هذه الإمكانات النسائية غير مستغلة، إذ أن نصف النساء اللاتي يعملن في شركات العلوم والهندسة والتكنولوجيا يهجرن وظائفهن لأسباب تتعلق بالتمييز ضدهن أو بسبب كم الضغوط التي يواجهنها جراء العجز عن التوفيق بين مسؤولياتهن الأسرية والتزاماتهن المهنية.
ويقول البنك الدولي إن امرأة واحدة من بين كل خمس نساء في سن العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعمل في وظيفة مدفوعة الأجر أو تبحث بحثا جادا عن عمل. وفي الوقت الراهن، لا تشكل النساء سوى 21 بالمئة من القوى العاملة ولا يسهمن سوى بنسبة 18 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي في هذه المنطقة. ولو شهد العقد الماضي تضييق الفجوة بين الجنسين في المشاركة في القوى العاملة لتضاعف معدل نمو إجمالي الناتج المحلي في المنطقة أو زاد بمقدار حوالي تريليون دولار من حيث الناتج التراكمي.
لكن بدلا من ذلك امتدت الفجوة الحالية بين الجنسين في سوق العمل التقليدية إلى بقية قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك قطاع التكنولوجيا، مما أثر في حصول النساء على الخدمات الرقمية واستخدامها. وبالمقارنة مع الرجال، فإن احتمال امتلاك النساء هواتف محمولة يقل بنسبة 9 بالمئة ويقل احتمال استخدام الإنترنت المحمول بنسبة 21 بالمئة.
وتقف المعتقدات والممارسات الثقافية، والقوانين واللوائح التقليدية، والعديد من الأعراف الاجتماعية المتحيزة ضد المرأة في طريق حصول النساء على الوظائف، والخدمات الرقمية، والتدريب، وتبدو صورة الفجوة بين الجنسين أكثر قتامة، في المناطق غير المستقرة والنائية.
عراقيل خفية وعلنية
كما لا تزال شركات التكنولوجيا تواجه تحديات في ما يتعلق بتنوع موظفيها، سواء من حيث الجنس أو من حيث العرق، ولاسيما في المهن الأكثر تقنية.
وأشارت دراسات إلى أن النساء اللاتي يواصلن العمل في المهن العلمية يصطدمن بعراقيل خفية وعلنية؛ إذ يشتد التحيز ضدهن في هذه المجالات التي ما زال يهيمن عليها الرجال، وكثيرا ما ينظر لهن على أنهن دخيلات أو أن مشاركتهن “صورية” أو بهدف إثبات التوزيع المنصف للمناصب بين الجنسين.
وفي معظم شركات التكنولوجيا الكبرى في وادي السيليكون بكاليفورنيا ما زال الرجال البيض يسيطرون على معظم الوظائف، أما النساء فلا يشكلن سوى 20 بالمئة من الموظفين التقنيين، حسب آخر تقرير للتنوع العرقي والجنسي صادر عن غوغل. ويعلق النقاد على هذا الشأن بالقول إن شركات التكنولوجيا العملاقة لم تبن قوة عاملة على أساس المواهب الموجودة وأنها تحتفظ بالمناصب الإدارية والقيادية للرجال.
وكانت شيريل ساندبيرغ، كبيرة الإداريين التشغيليين في فيسبوك، تحدثت عن حاجة الشركات إلى أن تصبح أكثر تنوعا. ويقول فيفيك وادوا، المحاضر بجامعة ستانفورد إن “كل الفوائد موجهة للرجال؛ غرف الألعاب وجميع المواد الغذائية التي يمكنك تناولها.. كل ذلك يعتبر طقوسا مرتبطة بالذكورية. والافتراض هو أنك صغير في السن وذكر، وأنهم سوف يفعلون كل ما يمكنهم القيام به للحفاظ على سعادتك هناك”.
وبالإضافة إلى التمييز الجنسي تواجه النساء اللاتي يعملن في بيئات يهيمن عليها الرجال، الشعور بالعزلة، أو قد يصبحن أكثر عرضة للتحرش.
وكثيرا ما يعمد الرجال في هذه البيئات إلى إقصاء المرأة من المناسبات الاجتماعية واستبعادها في حالة وجود فرص لإقامة شبكة علاقات مهنية، وهذا يجعلها تشعر بأنها دخيلة على المجال بأكمله.
إلا أن عالم الكمبيوتر سو بلاك يعتبر أنه برغم هذه العقبات التي توصل إليها الباحثون فإن نتائج عمل المرأة في صناعة التكنولوجيا لا تزال مشجعة. وقال بلاك في تصريح سابق لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” “أعتقد أننا سنشهد عودة اهتمام النساء، ليس فقط في مجال الترميز، ولكن أيضا في كل أنواع المهن ذات الصلة بالتكنولوجيا على مدى السنوات القليلة المقبلة”.
وأضاف “إدراك أن المرأة تقوم بعمل رائع في الترميز يمنح قوة لقضية أنه من الأفضل للجميع الاستعانة بالمزيد من النساء العاملات في مجال التكنولوجيا”. وتابع قائلا إن أدا لوفلايس هي التي توصلت إلى فكرة البرمجيات في المقام الأول “ونحن مدينون لها بأن نشجع وندعم النساء في صناعة البرمجيات”.
استفحال بطالة النساء
أما التحدي الأكبر الذي يتخوف منه الخبراء، فهو وقوع النساء أكثر من الرجال بين مطرقة التمييز الجنسي، وسندان التكنولوجيا الجديدة التي تهدد بأن تحل محل الأيدي العاملة.
وبالرغم من أنه يصعب التكهن بالمستقبل، يبدو أن العالم على أعتاب ثورة صناعية رابعة، وهي ثورة قد تمثل القوة الدافعة وراء التغيير في جميع الأعمال والوظائف.
ويتوقع المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره عن الفجوة بين الجنسين، أن الخسائر التي تقدر بخمسة ملايين وظيفة سيتكبدها 15 بلدا في الفترة الممتدة من 2015 إلى 2020، وستضر النساء أكثر من الرجال، لأن القطاعات التي يتوقع أن تنمو، مثل العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، عادة ما توظف أو تحتفظ بالقليل من النساء.
وفي المجالات التكنولوجية يمكن أن يسهم نقص دور المرأة في خلق حلقة مفرغة تثني الشابات الأخريات عن دخول هذه الصناعة بسبب الافتقار إلى الإلهام أو القدوة أو حتى نظام الدعم. لكن لا تزال هناك آمال في أن تساعد جهود مواجهة التحيز الضمني والتنظيمي في المجتمع العلمي على زيادة ريادة المرأة في مجال صناعة التكنولوجيا.