زيارة أردوغان لتونس.. الخفايا ومشروعية التوجس

من حقّ بعض التونسيين أن يتوجس خيفة من زيارة تركية غير مُعلنة مسبقا وبفريق وزاري كبير، كتلك التي أداها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأربعاء إلى تونس والتقى خلالها الرئيس التونسي قيس سعيّد.
ومن حقّ التونسيين أن يستحضروا التدخل العسكري التركي في ليبيا في العام 2011، وفي سوريا على مدى سنوات الأزمة السورية، وأن يتحفظوا من دور تركي خارجي افتقد لأبسط مقوّمات “الصفر مشاكل” وهي اللبنة الدبلوماسية التي أصّلها مهندس القوة الناعمة التركية أحمد داوود أوغلو.
صحيح أنّ الجزء الأكبر من الحضور التركي كان بسبب غياب العمل العربي المشترك، ولكنّ الصحيح أيضا أن التدخل التركي اصطبغ بطابع تجاوز السيادات الوطنية في العراق وفي سوريا وفي ليبيا في وقت سابق.
وفي حال تزامنت الزيارة مع شبكة من المؤشرات غير المطمئنة في السياق المغاربي، انطلاقا من توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، مُرورا بإعلان أنقرة استعدادها للتدخل العسكري في المشهد الليبي دفاعا عن المجلس الرئاسي بقيادة فائز السراج، وليس انتهاء بالرسائل الإقليمية الصادرة من القاهرة والرياض وأبوظبي والرافضة لتحركات أردوغان في المنطقة، فإنه من المنطقي أن تُثير الزيارة نقاط استفهام كثيرة.
وفي تقديرنا أن الاستكانة التي تبديها الدبلوماسية التونسية وعلى رأسها الرئيس قيس سعيد، لم تسمح للدولة بهامش التحرّك والمناورة الذي كان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي يحسن التعامل معه.
وكلّما تثاقل سعيّد في مغادرة قصر قرطاج نحو عواصم العالم، كلما صارت الاستحقاقات الدبلوماسية محنا إقليمية ودولية مفروضة على البلاد، وصارت تونس على هامش مواضيع خطيرة من المفروض أن تكون فاعلة فيها بمقتضى الجوار والأثر.
زيارة أردوغان لتونس تتأسس على بُعدين كبيرين، الأول اقتصادي، والثاني سياسي، وكلاهما مرتبطان بالملف الليبي المشتعل، وفي كليهما تمثّل تونس “بيضة القبان”.
أمّا الاقتصادي، فهو متعلق بترسيم الحدود بين المجلس الرئاسي والحكومة التركية، حيث تُمكّن هذه الاتفاقية تركيا من ثروات باطنية من النفط والغاز الطبيعيّ تسمح لها بالانعتاق نهائيا من سطوة الغاز الطبيعي الروسي والنفط الإيراني وتمكينها من الاستقلالية التموينية وهو الأمر الذي قد تكون له تداعيات جوهرية في مستوى العلاقات الإقليميّة.
مع هذا البُعد الاقتصادي، يتقاطع البعد السياسي، حيث ترى تركيا أنّ الحلّ الأهمّ لإنقاذ حكومة السراج يكمن في الدفاع عن “شرعيته” في مؤتمر برلين والسعي إلى الوصول إلى تسوية سياسية تضمن للمجلس الرئاسي الاستمرار حتى وإن قبل بتنازلات هامشية، وهو ما سيسمح لتركيا لا فقط بحصة من الثورات الباطنية في المتوسط، بل أيضا في حصة معتبرة من كعكة إعادة الإعمار في ليبيا.
ما بين الاقتصادي والسياسي لصالح تركيا في ليبيا، تحضر تونس كطرف وظيفيّ في المُعادلة الليبية، حيث يسعى أردوغان إلى إحداث تعديل في موازين القوى الإقليمية والدولية الحاضرة في المؤتمر.
فحضور تونس والجزائر وقطر لمؤتمر برلين، سيُمكّن تُركيا من تعديل نسبيّ للموازين الإقليمية العربية في مُقابل مصر والإمارات، وهُنا يبني أردوغان تقييمه هذا على عدّة مقدمات على غرار استقبال سعيّد تقريبا لفريق واحد من المشهد الليبي إضافة إلى وزن حركة النهضة المعتبر في صياغة الرؤية الدبلوماسية.
فلئن كانت أوروبا منقسمة حول ليبيا، بين المقاربة الفرنسية والإيطالية، فلا ضير لأردوغان أن يزيد من مأسسة التشظي الإقليمي حول ليبيا، طالما أنّ الأخيرة باتت بالنسبة له “قبرص ثانية” تمكنه من إطلالة على المياه الدافئة ومن سيطرة على الثروات الباطنية في البحر المتوسط.
ليس معنى ذلك أننا ضدّ حضور تونس مؤتمر برلين والدفاع عن مقارباتها في ليبيا، فعلى تونس أن تكون حاضرة وفاعلة، ولكن من واجبها أيضا أن تفهم الرهانات الإقليمية من استدعائها بعد النكوص، وأن تستوعب لعبة الأمم وأن تبني على أساسها استراتيجية ناعمة ومُباشرة تدافع عن مصالح تونس وعن العُمق الاستراتيجي التونسي في الجوار الغربي.