التكنولوجيا ومنصات التواصل تغيران خارطة التجسس

جمع معلومات ضخمة والتحريض وتحريك الرأي العام قدرات خارقة أضيفت إلى الحكومات.
الأحد 2019/12/22
التجسس الإلكتروني صفحة جديدة في كتاب الصراع الخفي بين دول العالم

فتح التحقيق المثير، الذي أجرته صحيفة الغارديان مع مركز الأبحاث الرقمية بجامعة كوينز لاند للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، أفقا جديدا حول تطور العمل المخابراتي المتوغل. وكشف التجسس باستخدام الذكاء الاصطناعي عن تحول كبير في آلية التتبع والتحقق وجلب المعلومات، وتغيير نمطية أداء الأجهزة الأمنية في العالم.

القاهرة - أضحى الذكاء الاصطناعي جزءا أساسيا في الكثير من مناحي الحياة. ومع توسعه الكبير، وثورة التغيير التي فتحها على العالم بات محل اهتمام الأجهزة الأمنية والسياسية في البلدان الكبرى، وهي مسألة فرضت تبني عقيدة مختلفة في طريقة تنفيذ أهداف أجهزة المخابرات من عمليات تجسس واغتيال وتوجيه للرأي العام.

كان التحقيق المنشور الأسبوع الماضي، في الغارديان البريطانية، آخر الدلائل على تلك التطورات الجديدة التي أحدثتها التكنولوجيا مندمجة مع منظومة العمل الآلي والذكاء الإلكتروني. وقدم التحقيق أدلة على نشاط غير طبيعي تمارسه قوى خفية لتحريك وتوجيه الرأي العام ضد قطاعات وطوائف وشخصيات معينة عبر بث خطاب كراهية مستدام ومنتظم.

ارتكزت تلك القوى التي قالت الصحيفة إن مركز بثها من إسرائيل، وتحديدا تل أبيب، على صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي تعود ملكيتها إلى أفراد وأحزاب تنتمي إلى اليمين المتطرف. وتمت بلورة أخبار كاذبة وخطاب متشابه في اللغة والمصطلحات والصياغات يحرض متابعي تلك الصفحات ضد مسلمين وأحزاب يسارية وشخصيات عامة مثل عمدة لندن صادق خان والبرلمانيتين المسلمتين في الكونغرس رشيدة طليب وإلهان عمر، وكذلك أعضاء بحزب العمال البريطاني وفي مقدمتهم رئيس الحزب جيمي كوربين.

لم يكن التقرير الصحافي والدراسة الميدانية إلا صفحة أخرى تكشف دخول الذكاء الاصطناعي وأدوات التكنولوجيا الافتراضية عالم التجسس، عبر جلب المعلومات وتأجيج الكراهية والعنصرية وتحفيز وتحريض البعض ضد جماعات بعينها لإنتاج موجات من العنف والفوضى.

انتقال الحرب المخابراتية من العمل الميداني إلى العالم الافتراضي لم يكن سرا؛ ففي عام 2013 أعرب مسؤولون كبار بجهاز المخابرات الأميركية عن آمالهم في استغلال الذكاء الاصطناعي لصالح جمع كميات ضخمة من المعلومات عن أفراد عاديين وشخصيات عامة وأعمال حكومات بلدان كبرى. وادعى رجال المخابرات الأميركية أن ذلك يعني عالما أكثر أمانا وثقة لأن التكنولوجيا ستتنبأ بالعمليات الإرهابية والحروب وأحداث العنف قبل وقوعها.

التكنولوجيا ستحل محل العملاء والجواسيس بشكل عام، وبالتالي يمكن أن تنخفض الأخطاء البشرية والأعمال المشبوهة غير الإنسانية التي تسببت في مقتل الكثير من الأبرياء والتأثير على حياة الملايين

ويمكن للبرامج والتطبيقات الإلكترونية المطورة أن تصبح أداة لينة تتشكل حسب طلب وحاجة الأجهزة المخباراتية، فإذا كانت المخابرات الأميركية أملت في تطبيع المسألة مع دور الأجهزة الأمنية في جمع المعلومات السرية، فإن أجهزة أخرى مثل الموساد الإسرائيلي رأت في الذكاء الاصطناعي بابا خلفيا للقيام بالأعمال المشبوهة.

ضاعف التحام التطور التكنولوجي مع منصات التواصل الاجتماعي قوة الذكاء الاصطناعي بعد أن قام بأعمال المخابرات دون الحاجة إلى تلويث يديه أو سمعته؛ فلم يتوقف الأمر عند القدرة الفائقة على جمع معلومات مهمة للملايين من الأشخاص، وإنما نجحت الأجهزة الأمنية في استغلال مواقع التواصل الاجتماعي لتكون منبرا لتحريك الرأي العام، والدفع نحو خطوات لها أبعاد سياسية وأمنية مهمة وخطيرة.

ويقول روبرت ألوان، مدير مركز أبحاث “دوت” المختص في دراسة عمل المنصات الإلكترونية، إن رجال الأمن وأفراد عاديين يعملون بأجهزة جمع المعلومات في البلدان العظمى، يمكنهم أن يرجّحوا كفة مرشح رئاسي أو برلماني في بلد ما في أميركا اللاتينية أو التحريض الطائفي على قتل مسؤول في الشرق الأوسط.

ويٌقدم دائما نظرية “قلب الطاولة” في عالم التواصل الاجتماعي، فالعشرات من الأمثلة كشفت التغير الذي نشأ في عقلية الملايين من الناخبين لمجرد تتبع صفحات ومنصات التواصل التي عكفت على ضخ آلاف المعلومات الخاطئة والمضللة لتوجيه الرأي العام نحو طريق معين.

ويرى البعض من الخبراء أن الخطاب الموجّه على مواقع التواصل الاجتماعي لعب دورا محوريا في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد أن رصدت جامعات بريطانية إنشاء وتفعيلا نشطا لأكثر من ألف صفحة وحساب على مواقع فيسبوك وتويتر وتلغرام بين عامي 2015 و2016، اختصت فقط في تصدير معلومات تندد بأعمال الاتحاد الأوروبي وتحرض ضد المهاجرين واللاجئين وتعزز الأفكار اليمينية الشعبوية وتمجد السيادة البريطانية على حساب الانتماء إلى الكيان الأوروبي.

ورصدت الدراسة ضمور وتوقف نصف تلك الصفحات بعد ترجيح كفة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ليبدو وكأن للصفحة دورا محددا وانتهى. وتكررت الحالة أيضا ضد مرشحين للكونغرس الأميركي من أصول مسلمة وأفريقية ومهاجرين خلال الانتخابات الأخيرة، وبرزت فيها صفحات يمينية متطرفة تعمل بجد على تشويه السمعة وتأجيج المشاعر عبر ربط الانتماءات الدينية والعرقية بالإرهاب والعنف، وملء الأجواء العامة بالخوف والفزع من الإسلاموفوبيا.

الجواسيس الجدد

تبدو الصفحات والمنصات والمجموعات والمنتديات الجواسيس الجديدة لأجهزة المخابرات، بعد أن اتسمت تلك الأنماط الإلكترونية بخصائص الجاسوس المحترف القادر على التوغل دون أن يشعر أحد، والتوجيه والتحريض دون كشف، والأهم صعوبة اكتشاف الانتماء أو أصل مالك الصفحة.

ولم يكشف بعد عن طبيعة تلك الصفحات وما إذا كانت تدار مباشرة عبر أفراد ينتمون إلى أجهزة أمنية بعينها أم بتوجيه وتحريض من المخابرات لأشخاص متطرفين فكريا عبر دعم مادي أو معنوي أو معلوماتي، إلا أن المسألة بدت معقدة مع صعوبة تعقب صاحب الخبر المغلوط أو التحريض الممنهج.

وظهر مؤخرا مصطلح جديد مصاحب لحالة تطور استخدام الذكاء الاصطناعي، يسمى “الاغتيال الإلكتروني”. ويعني المفهوم الجديد استخدام الإنترنت بكافة منصاتها للتحريض على قتل شخص ما أو التعدي عليه. وارتبط التعريف منذ ظهوره بالعمل المخابراتي، لاسيما أن أصابع الاتهام اتجهت كثيرا إلى المخابرات الصينية والأميركية والروسية في أعمال تحريضية متشابهة تتماشى مع سياسة تلك البلدان.

آلون تاسك: الصين وروسيا وأي دولة تمتلك علوم حاسبات متطورة، ستتصارع على احتكار الذكاء الاصطناعي والتحكم فيه، ما يعني حربا عالمية ثالثة
آلون تاسك: الصين وروسيا وأي دولة تمتلك علوم حاسبات متطورة، ستتصارع على احتكار الذكاء الاصطناعي والتحكم فيه، ما يعني حربا عالمية ثالثة

ويعتمد أصحاب ذلك المنهج على توجيه لغة الكراهية والخطاب العنيف المحرض لدفع العامة إلى مهاجمة شخصيات مشهورة. وتبنى الفلسفة على المشاركة والتفاعل عبر تقديم منشورات إلكترونية تدعو إلى التفاعل بالتعليقات وعلامات الإعجاب على خبر مغلوط يسيء إلى سمعة الشخص أو بإطلاق “هاشتاغ” يحمل عنوانا تحريضيا ضد شخص محدد، ليملك مفعولا سحريا يدفع الآلاف إلى المشاركة فيه، وتملك عقول الملايين نحو تتبع وقراءة ما ينشر عبر “الهاشتاغ”.

وعلى الرغم من ظهور الأمر في السابق وكأنه أشبه بلعبة أو تسلية بسب شخص معين لاختلاف في الأفكار أو المنهج أو الانتماء الطائفي والديني، تحوّل بالفعل إلى كارثة عندما انتقل التحريض الافتراضي إلى تعدّ ومحاولة اغتيال فعلية في الواقع.

وتعكس عشرات الأمثلة تلك الصورة، ففي عام 2017 تعدى ثلاثة من المواطنين في تشيلي على المرشح اليساري ماركو أوناني بإلقاء مواد حارقة بعد موجة هجوم إلكتروني مفاجئة ضد الرجل وحياته الشخصية. وتسبب هاشتاغ “#هاجم _البدوي” عام 2015 بتعدي بعض المتظاهرين في مصر بالضرب على رئيس حزب الوفد الليبرالي سيد البدوي خلال مسيرة ضد الإخوان بدعوى أنه شخص منافق. وقتل مواطن يميني متطرف يدعى جيسون كيسلر، محتجا وأصاب عشرات في مدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا الأميركية بعد أن دهس بسيارته حشدا خلال مظاهرة ضد الكراهية والتطرف في عام 2017، عقب خطاب عنف قادته ثلاث صفحات تدعم التيار اليميني في الولايات المتحدة والرئيس الحالي دونالد ترامب.

وفي السنوات العشر الأخيرة، تكرر استخدام مصطلح “اللجان الإلكترونية”، وهي تسمية أطلقت على الحملات الممنهجة للهجوم على شخص أو حدث أو قرار. والمثير كان تتبع العديد من الدراسات المتخصصة للآلاف من الحسابات والصفحات التي تقوم بعمليات الهجوم، وبدت أغلبها حسابات وهمية لا تحمل هوية، وتتشارك في نفس الجمل والمقاطع المصورة، وكأنه جيش إلكتروني؛ الجميع يرتدي نفس الزي ويتحرك بأوامر مسبقة.

وهنا برز الذكاء الاصطناعي أول مرة، بعد أن عملت البرامج المخابراتية المطورة على احتكار الآلاف من الحسابات وتطويعها لخدمة سياسات فوضوية ومدمرة في الكثير من الأحيان.

معركة الأقوى

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2017، على هامش المؤتمر الوطني للصناعات التكنولوجية، “الأمة التي تتحكم في الذكاء الاصطناعي، ستحكم العالم”. واعتبرت تصريحات بوتين وقتها بمثابة اعتراف رسمي من أحد أكبر القوى في العالم بخطورة الذكاء الاصطناعي على العالم إلى درجة قد تطيح بدول وقوى عظمى وتأتي بأخرى لقدرتها التكنولوجية في الحرب قبل السلم.

وحذر إلون تاسك، رائد صناعة التكنولوجيا والرئيس التنفيذي لشركة “تسلا”، من تصريحات بوتين قائلا “الصين وروسيا وأي دولة تمتلك علوم كمبيوترات متطورة، ستتصارع على احتكار الذكاء الاصطناعي والتحكم فيه، ما يعني حربا عالمية ثالثة”.

ولا يمكن فصل المسألة عما يحدث الآن من سوء استخدام لقوة وهيمنة الذكاء الاصطناعي؛ فإذا كانت التكنولوجيا والعمل الإبداعي الافتراضي قد قدما للعالم والبشرية فرصة غير مسبوقة للتطور السريع والوصول إلى مراحل بعيدة، فإنهما أعطياه سلاحا فتاكا لتدمير ذاته، والآخرين.

ويمثل دخول الذكاء الاصطناعي بشكله الحالي في العمل العسكري والمخابراتي، واستغلال تشعباته السيء مؤشرا سلبيا على اتجاه القوى العظمى في العالم نحو التراجع والصراع بدلا من تقديم خدمات أفضل للبشر بشكل عام.

ورغم التحذيرات الغربية المتواصلة من التحركات الصينية والروسية في مجال ربط الذكاء الاصطناعي بجمع المعلومات، وكان آخرها إعلان الصين إنشاء وحدة عسكرية مستقلة تدار بالذكاء الاصطناعي دون وجود أي قوة بشرية، إلا أن الولايات المتحدة والكثير من البلدان الأوروبية بدتا عازمتين أيضا على تطوير أدواتهما المعلوماتية مستغلتين الأدوات المذهلة للتكنولوجيا، والتي تشبه السحر أو المعجزة بالنسبة إلى عمل مخابراتي صعب ومعقد.

Thumbnail

مع ارتفاع الأصوات المنددة بتحالف التجسس السياسي والعسكري مع الذكاء الاصطناعي، دافع خبراء عن ذلك المجال المستحدث وعدّ فوائده على العالم. ويرى من يعملون في مجال التكنولوجيا العسكرية أنه ساعد على تطور أدوات المخابرات بشكل سمح بتوقيف وإفشال المئات من العمليات الإرهابية قبل وقوعها.

وساعدت خاصية التعرف على الوجه أو تحديد الهوية عبر الكمبيوترات على إلقاء القبض على أكثر المجرمين خطورة وتهديدا للسلام العالمي، ومن أبرز هؤلاء زعيم القاعدة أسامة بن لادن، الذي ظل مختبئا لفترة طويلة، إلى أن استطاع الذكاء الاصطناعي عبر إشارات الأقمار الصناعية عام 2017 تحديد ملامح بن لادن وتأكيد تواجده، ليتحرك الجنود الأميركيون لمهاجمته وقتله.

ويعتقد خبراء أن هناك فوائد أخرى لتولي الذكاء الاصطناعي مهمة التخابر؛ فالتكنولوجيا ستحل محل العملاء والجواسيس بشكل عام، وبالتالي يمكن أن تنخفض الأخطاء البشرية والأعمال المشبوهة غير الإنسانية التي تسببت في مقتل الكثير من الأبرياء والتأثير على حياة الملايين.

وغالبا ما تُلقى مسؤولية سوء استخدام التكنولوجيا على عاتق مواقع التواصل الاجتماعي؛ فإذا كان هذا الذكاء قد أضفى أبعادا غير مسبوقة على عالم المخابرات، فإنه ما كان لطفرة أن تحدث دون التشابك مع منصات التواصل الاجتماعي.

وبات العمل الدولي السري يعتمد مؤخرا على تلك المواقع باعتبارها الساحة الأكثر تأثيرا ومواجهة سواء عبر التحكم في الملايين من الحسابات أو عبر جمع المعلومات المهمة من حسابات أصحابها أو عبر التلاعب بالرأي العام.

وتواترت الاتهامات لمؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ، باستغلاله المعلومات الضخمة في الموقع وبيعها لشركات وهيئات للاستفادة منها. ورغم عدم حسم مسألة المتاجرة بالحسابات الشخصية حتى الآن، تبقى إدارات مواقع التواصل شريكة في ما يحدث بعد أن عجزت أو تعمدت أن تبدو عاجزة أمام مواجهة سيل الحسابات المزيفة والأخبار المغلوطة والخواص الإلكترونية مثل “ستوري” و”هاشتاغ” و”ترند”، والتي بدت ساحة حرة بلا رقيب أو تحت إمرة أجهزة المخابرات.

وما زال الكثيرون يأملون في أن يكونوا قادرين على الضغط على مواقع التواصل الاجتماعي لعمل المزيد من السياجات والسلاسل الأمنية لأجل محاصرة تلاعب أجهزة التخابر بسير خوارزمية المنصات الاجتماعية بشكل يعيد الأهداف الأولى التي قامت من أجلها مواقع التواصل الاجتماعي، مساحة افتراضية حرة تسمح بتناغم وتواصل بين الجميع دون قيود متخطية كل الحدود الجغرافية.

7