للدكتاتورية الخشنة ميزة.. عن نموذج انتهى وآخر يتشكل

للمرة الأولى تخلو كل المهرجانات المصرية، في عام 2019، من فيلم روائي واحد يليق بتمثيل مصر في مسابقاتها الدولية التي بدت مائدة عامرة في بيت مضيف فقير. وفي المقابل، تنافست في هذه المسابقات أفلام لعراقيين في الداخل وفي المنافي، تجاوزوا ضيق مفاهيم الثأر من النظام السابق إلى آفاق إنسانية. وربما لا يدركون أنهم من الثمار غير المقصودة لاستبداد خشن يضمن للمواطنين تعليما جيدا، ثم يخنق أرواحهم الطليقة، فيسارعون إلى الفرار، وفي الملاذات الآمنة يتاح لهم إنضاج مواهبهم، ومن تجلياتها الأفلام.
لا أناقش الآن صناعة الأفلام، وإنما أتأمل تفاعلات عامة تنحسر فيها الفنون أو تنتعش. ومن الصعب نهوض الفنون في ظل الاستبداد، ربما باستثناء العمارة، الصهوة التي يمتطيها الدكتاتور ليشعر بزهو القوة والمهابة. وما تم تشييده من قصور وقلاع وصروح ودور فخمة للعبادة اقترن أحيانا بالاستبداد. وفي تطبيق لدستور غير مكتوب، تتحصن الدكتاتوريات في كل العصور ببناء علمي وصناعي وعسكري، ويوجه المستبد موارد الدولة إلى العلوم الطبيعية والاستثمار في العلماء، ولا يتحمس لعلوم إنسانية تمنح دارسيها الجرأة على الجدل والانتقاد، وتنزع عنهم رهبة تقديس المطلق الديني والاصطفاف الأعمى مع المطلق السياسي.
هروبا من الاستبداد الخشن، تصبح المنافي الرحيمة أوطانا بديلة، ولا تتعدد الأوطان إلا للمطاردين، كما لا يتعدد الآباء إلا لليتامى. وأخرج العراق ما أثقل على الاستبداد، طويل الأجل، أن يحتمله. ورحبت بالمطاردين طالبي الأمان دول تعرف قيمة البنائين، وتثمّن معادن الموهوبين، ومنحتهم جنسياتها. وظل هؤلاء يحلمون بالعراق ويحملونه أينما يكونوا، يحملونه في القلب لا على القلب، وفي اللحظة المناسبة تأتي الثمار منسوبة إلى العراق، حتى لو لم يكن صاحبها قد زار بلاد آبائه.
على النقيض كانت مصر حسني مبارك نموذجا لاستبداد ناعم لا يصادر حياة معارض، ولا يمكّن المصري من الارتقاء إلى درجة “مواطن”، فالدولة عائلة منذ رسّخ أنور السادات هذا المفهوم، ورئيسها أب لا يقتل أبناءه، ولا يطْلقهم فتنبت لهم أجنحة. يعيشون في ظلاله بالحد الأدنى من الحياة، فلا يموتون ولا يحيون، ولا يتمتعون بحقوق المواطنة، في التعليم والصحة والنصيب من الثروة إلا بما يسمح لهم باستمرار هذا الحد الأدنى من الحياة. ظل الرجل محدود الخيال يتحرك في مساحة ضيقة أمام المرمى، يحرس مرماه ولا يسجل أهدافا في المرمى الآخر، ولا يزعجه ألا يحقق فوزا. وفي العادة يحرز الأهداف مغامرون لا يفرقون بين المعرفة والخيال، بين العلم والفن، بين الخبرة والمهارة. ربما يتعثرون فينهضون وأعينهم على المرمى الآخر الذي لا يهتم به حسني مبارك المهموم بالترقب، لكي يشتت الكرة، وهذا أقصى إنجاز لرئيس بليد. وبعقلية حارس مرمى استمر مبارك ثلاثين عاما خالية من الإنجاز.
بعد سنوات لن تطول، في ظل حالة مصرية تتشكل الآن، سيتعدد آباؤنا، وتشارك مصر بأفلام في المهرجانات العالمية، وتنافس مخرجي العراق، الناجين من النار
مرت هذه السنوات الثلاثون في غفلة منا، وتقوّضت فيها أدوار دولة تدافع عن نفسها بإعادة سرد أمجاد أنجزتها أجيال سابقة. ولا يفتش في دفاتره القديمة إلا الخواجة بعد الإفلاس. وقد ألقى مبارك ظلاله الحاجبة، فامتنعت عنا الشمس وطال الأمد، حتى مات جيل ومعه طموحاته، وبدا التجريف شاملا، وأفقنا مع شمس 25 يناير 2011 على دولة متحللة.
في المجتمعات المغلقة، نتيجة زواج الأقارب، تصاب الأجيال الجديدة بأمراض عقلية. وأما الذين ينضجهم الاستبداد الخشن مبكرا فيتمردون على الموت، ويهربون ويتفاعلون مع البيئات الجديدة، بكفاءة الأنداد. ثم يأتي الحصاد مقترنا باسم العراق.
بدأت المقال بخريف صناعة السينما في مصر، وبها أختم مستشهدا بتقرير لوكالة رويترز في 12 ديسمبر 2019، بعنوان “السيسي يوسع حملة التضييق لتشمل خصما جديدا.. المسلسلات التلفزيونية”. في هذا التقرير حقائق يعرفها المقربون، مثل مجموعة “رؤساء التحرير” على تطبيق واتساب، لإرسال التعليمات الأمنية إلى منفذيها من رؤساء التحرير، فلا يجرؤون على نشر حقيقة تصلهم من مصدر مستقل، وعليهم الالتزام بالرواية الرسمية لأي حدث، ولو كان تفجيرا يتابعه الناس في المواقع الاجتماعية والفضائيات غير الحكومية. لا اجتهاد مع النص المنزّل من وزارة الداخلية، “لا تضيفوا إليه أي شيء”.
ولا يستأهل استشهاد 20 مواطنا أغلبهم من أسرة واحدة، في تفجير أمام معهد الأورام في أبريل 2019، تغطية لائقة، “مش عاوز توسيع تغطية حادث مركز السرطان… تغطية محدودة”. وبعد نجاح مؤقت للمقاول محمد علي في تحريك الناس، ولو في صيغتيْ تململ وترقّب، يكون الأمر “عدم نشر أي تقارير إخبارية عن محمد علي”، الذي فرضته أجهزة الأمن فرضا على المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي عام 2016.
في فيلم “آخر أيام المدينة” أدى تعليق صوتي، مدّته ثوان لمتظاهرين يرفضون “حكم العسكر”، إلى أن يستبعد من العرض في أي قسم بالمهرجان، واستبدل به في المسابقة الدولية فيلم ضعيف عنوانه “البر الثاني” إنتاج وبطولة المقاول محمد علي.
وخصصت مجلة “الفيلم”، نوفمبر 2019، عددا للدورة الحادية والأربعين لمهرجان القاهرة، وفيه تقول ماجدة واصف رئيس المهرجان السابقة إن إحدى الجهات، دون أن تحدد طبيعتها، تدخلت لمنع عرض “آخر أيام المدينة” لتامر السعيد، “وكان رأيي في الفيلم أنه رائع فأنا أحب هذه النوعية من الأفلام، ولكن هذه الجهة تدخلت ومنعت عرضه، نظرا لحساسية الموضوع الذي يناقشه، ورفضت هذه الجهة الإعلان عن سبب الرفض، حتى أننا طلبنا من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية إعلان رفضه للفيلم، لكنهم رفضوا أيضا ووضعونا في “وش المدفع” واضطررنا أن نقول إننا رفضنا الفيلم بسبب مشاركته في 35 مهرجانا سينمائيا”.
مجرد فيلم يزعج سلطة عليا في البلاد، فلا يسمح جهاز الرقابة بعرضه في المهرجان ولو للنقاد، ولا يستطيع الإعلان عن رفضه، إلى الآن.
بعد سنوات لن تطول، في ظل حالة مصرية تتشكل الآن، سيتعدد آباؤنا، وتشارك مصر بأفلام في المهرجانات العالمية، وتنافس مخرجي العراق، الناجين من النار.