"شبح مدار" رحلة لامرأة وحيدة في ليل بروكسل البارد

الفيلم عن تفاصيل صغيرة تجد البطلة نفسها منخرطة فيها، ساعية إلى معرفة مدينة تقيم فيها في رحلة ليلية تسبر فيها أغوار نفسها.
الخميس 2019/12/12
تفاصيل بسيطة تصنع دراما عميقة

في الفيلم الوثائقي المصري "احكيلي" الفائز بجائزة الجمهور في مهرجان القاهرة السينمائي 2019، تقول الأم لابنها يوسف شاهين، خال المخرجة ماريان خوري، إنها لا ترى في صناعة فيلم وثائقي عن العائلة فكرة تستحق الاهتمام، لأنها "عائلة بسيطة"، تخلو حياتها من الأحداث الكبيرة، فلا جريمة ولا طلاق.

ولكن شاهين، الذي صنع من حياته ومن سيرة العائلة عدة أفلام روائية بداية من “إسكندرية ليه؟”، يوضح لأمه أن الجرائم وقصص الطلاق تصنع دراما سخيفة وتافهة، وأن التفاصيل البسيطة والصغيرة تصنع دراما أكثر عمقا. وإلى هذا النوع الذي قصده يوسف شاهين ينتمي الفيلم البلجيكي “شبح مدار” الفائز بجائزة الهرم الفضي في مهرجان القاهرة السينمائي الذي اختتم 29 نوفمبر الماضي.

الليل ملهم الفنانين، هكذا رسم المخرج البلجيكي باس ديفوس في فيلمه "شبح مدار" جدارية لليلة واحدة في شتاء العاصمة البلجيكية بروكسل، بألوان تتراوح بين الأسود ودرجات الرمادي، من ديكور الأثاث في النزل، ومن ثياب بطلة فيلمه، خديجة، ومن ردهات المستشفى، ومن ظلال البنايات وما بقي مفتوحا من المحال التجارية.

رحلة في ليل المدينة لامرأة وحيدة تصنع فيلما هامسا مراوغا يبدو كأنه تحضير لفيلم، فلا لغز تسعى إلى فك شفرته، ولا مشكلة تؤرقها وننتظر أن تجد لها حلا. وإنما هي تفاصيل صغيرة تجد خديجة (الممثلة الفرنسية ذات الأصل الجزائري سعدية بن طيب) نفسها منخرطة فيها، من دون قصد أو تخطيط، وتسعى إلى معرفة مدينة تقيم فيها، تقيم وكأنها لا تعيش فيها. وبهذه الرحلة الليلية تعرف نفسها أكثر.

يبدأ الفيلم بمشهد ثابت لأثاث بسيط في غرفة متواضعة ينسحب منها تدريجيا ضوء النهار القادم من نافذة لا تحول دون اقتحام الصخب. ويستغرق المشهد بضع دقائق تمهّد المشاهد لمتابعة فيلم إيقاعه الهادئ جزء منه، هو إيقاع يحثّ المشاهد على الإنصات إلى صوته الداخلي، وأن يغمض عينيه ويتأمل ذاته أيضا، ثم يفتح عينيه فلا يفاجأ بحلول الليل، فالليل يأتي ومعه خديجة عاملة نظافة، ذات الأصل العربي، بصحبة زملاء في جلسة صاخبة بالنقاش العفوي والضحك.

لوحة ليلية متقشفة
اكتمال أنشودة البساطة

في المشاهد الأولى تقترب الكاميرا من خديجة، في لقطات مقربة توحي بالرضا والتصالح النفسي، ثم نتابعها تؤدي عملها وهي في “الحجم” الطبيعي لامرأة وحيدة، صغيرة وسط مساحات وأماكن واسعة وبنايات ضخمة.

وتستقل المترو في رحلته الأخيرة، للعودة إلى بيتها، ومن الإرهاق تغفو، وتدريجيا تخلو من حولها المقاعد، لتفيق في نهاية الخط، وليس معها نقود تسمح لها باستقلال تاكسي، فتضطر إلى العودة سيرا على قدميها، وتمنعها كبرياؤها عن مدّ يدها إلى أحد، بعد أن جرّبت ماكينة صرف النقود في الشارع ولم تجد رصيدا، وقالت لأحدهم إن كل شيء على ما يرام.

المرأة التي بدت صغيرة وسط الكيانات الكبيرة ستكون في الليل مجرد شبح غير مرئي. وتقرّر خديجة أن ترى، وأن تجرب حقها في اكتساب المعرفة بمدينة “تقيم” فيها منذ نحو عشرين عاما، ومنعتها رتابة الحياة أن “تعيش” وتدرك جوانب كثيرة منها.

واختار مخرج الفيلم، انطلاقا من هذه المصادفة، أن نرى بروكسل أخرى، صوّرها بنعومة وحنوّ ودفء مدير التصوير جريم فاندكيرشوف بعيني امرأة خمسينية محجبة، تخوض في الأضواء والعتمة، وتقابل صنوفا من البشر يتوجب عليها أن تساعدهم، أو تدل آخرين من الممرضين في مستشفى أو من رجال شرطة على مساعدتهم.

وهكذا تشعر في شتاء المدينة بالدفء والفاعلية، وبأنها قادرة على المغامرة ولو بدخول بيت قديم خال إلاّ من ضوء شحيح، ثم يصادفها أمام البيت رجل ويرتاب فيها، ويتفادى المخرج الإشارة إلى أن مصدر الشك هو هيئة خديجة وثيابها الدالة على ديانتها، ولا تتردّد خديجة في القول إنها عاملة نظافة، ويعرض عليها الرجل أن تعمل في بيته، فتقول بكبرياء إنها لا تنظف الأماكن الخاصة.

لا تتخلى خديجة عن سكينة روحية تلازمها وتمدّها بمحبة الأرواح الوحيدة، بداية من مشرّد ينام في الشارع ويحتاج إلى رعاية، وببغاء في قفص يعيش وحيدا بعد موت ثلاثة ببغاوات كانت تؤنسه في القفص.

لوحة ليلية متقشفة
لوحة ليلية متقشفة

خديجة أيضا وحيدة منذ مات زوجها وترك لها ابنة مراهقة لا نسمعها ولا نراها عن قرب، وتكاد ابنتها تكون ضمن، أو مثل، مراهقين يتناولون الخمور في الشارع، وتتبعهم خديجة بصمت وشفقة من حيث لا يرونها، مثل شبح يراقب الناس ولا يشعرون به. ثم تذهب إلى شرطي لتنبهه إلى أن أحد المحال يبيع الخمور لمراهقين دون السن القانونية.

بروكسل في فيلم “شبح مدار” ليست باريس التي كانت مسرح أحداث فيلم وودى آلن “منتصف الليل في باريس”، كما تختلف عن القاهرة التي دارت فيها أفلام كثيرة في ليلة واحدة، ومنها “ليلة ساخنة” لعاطف الطيب، و”أرض الأحلام” لداود عبدالسيد، و”الفرح” لسامح عبدالعزيز، و”ليل خارجي” لأحمد عبدالله السيد.

في معظم هذه الأفلام حمولة فكرية ترهق الفيلم، رسائل تتغذّى عليها الدراما بأنصبة جائرة على الفن أحيانا، عبر مُخرج يبدو كليّ المعرفة، يستعين بجموع من البشر يوزّع عليهم ما يؤرقه أو يتمناه، بأدوات مختلفة لونية وصوتية وحوارية.

ولكن مخرج فيلم “شبح مدار” يوحي بالتخلي عن هذه المعرفة الكلية، ويستغني عن ثراء بصري تتمتّع به المدينة، ويرسم لوحة ليلية متقشفة، فيها فراغات يملؤها المشاهد المتفاعل مع بطلة تبدو، في أغلب المشاهد، صامتة صمتا أبلغ من “الكلام”. وتنتهي الرحلة بعودة خديجة إلى المنزل، ويغلق القوس بمشهد البداية معكوسا، حيث تشرق الشمس ويغمر الضوء أثاث الغرفة، لتكتمل أنشودة البساطة.

16