الفن والحداثة والعقيدة السياسية

“الأدب للملأ والرسوم في الشوارع”، وردت هذه العبارة في البيان الأول الذي صاغه دافيد بورليوك وكامنسكي وماياكوفسكي، الذي حمل عنوان “دمقرطة الفنون”، غداة الثورة البلشفية في روسيا، كان البيان تعبيرا عن رغبة في الخروج من مجتمع الفن المحصّن، والمغلق، الخاص بالمرفهين، إلى العموم، وتأكيدا على الرسالة الفكرية للفنون.
وبصرف النظر عن المضمون الأيديولوجي للعبارة –الشعار، لم يخلُ مسار تاريخ الفن الحديث والمعاصر من المراوحة حول قاعدة الفكرة، المتصلة بالجمهور، ما دام ثمة إيمان بمبدأ التعبير؛ هل يتعلق بالفرد أم بالجماعة؟ بالذات أم بالآخرين؟ بالمعنى أم بالجميل؟ أسئلة لا تكتسب جدواها إلا في استرسالها بما هي منطلق جوهري في التفكير بصدد الفن.
والظاهر أنها القاعدة التي أسست ليس فقط للأدبيات التي تصل الفن بالفكر والعقيدة والثقافة وإنما أيضا بدوره في إنتاج الأثر، وهل يحق حصر الأثر في نطاق العارفين والمقتدرين ماليا؟ أو الخروج به إلى العموم، أي الانتقال من الملكية الفردية للتحفة وما يتعلق بها من خصائص وينشأ عنها من إرغامات، إلى الملكية الجماعية وما تنهض به من أدوار، ذات عمق ثقافي، ومن ثم الإيمان بالمتحف أكثر من الغاليري.
والشيء الأكيد أن هذا التداول الذي كان في جوهره فكريا يصل المعنى والأفق الجماليين بأنساق التلقّي، ما كان له أن ينفلت من شرنقات السياسة، التي من معانيها تدبير حظوظ المواطنين من الخيرات الرمزية، وكان أن تحوّل النقاش بصدد العام والخاص، والملكية الفردية والملكية الجماعية، والجماهيرية والنخبوية، إلى موضوع أساسي في عقيدة التيارات الفنية، وفي إنتاج الأساليب، قبل أن يحتلّ مكانته لدى المنظّرين في مباحث “سوسيولوجيا الفن”، وقبل أن يجعل من الممارسة الفنية جزءا من إيمان بمفاهيم متغايرة للتعبير، لها جذورها في الانحياز السياسي.
وفي هذا السياق تحديدا ليس غريبا أن تطغى على الساحة العربية الحديثة، ظاهرة انتماء جل الحركات الفنية إلى منظمات سياسية في أغلبها منضوية تحت أعطاف اليسار الشيوعي، من مصر للعراق لسوريا للمغرب، انتماءات أفرزت لنا ظاهرة الفنانين المعتقلين السياسيين، ممن طبع اعتقالهم رؤيتهم للفن والأداة.
في سنة 1952، التأم في فيينا “مؤتمر الشعوب المدافعة عن السلام” شارك فيه ألفا مفكر وكاتب وفنان ومناضل سياسي من مختلف قارات الكون، وكان في رئاسة المؤتمر أسماء من قبيل بابلو بيكاسو (مصمم ملصق المؤتمر) والفنان المكسيكي دييغو رفييرا، وجون بول ساتر ولويس آراغون، وبابلو نيرودا، وآخرين، ولم يكن خاف هيمنة الفكر اليساري على عقيدة المؤتمر، وانتساب أغلب المندوبين للجان المركزية في الأحزاب الشيوعية الأوروبية والأفريقية والأميركية- اللاتينية.
جل الحركات الفنية على الساحة العربية الحديثة تنتمي إلى منظمات سياسية في أغلبها منضوية تحت أعطاف اليسار الشيوعي
كان بيكاسو حديث العهد بالانتماء إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ودييغو ريفييرا عضوا في الحزب الشيوعي المكسيكي منذ ثلاثينات القرن الماضي وأحد رموزه الثقافية، ومن ضمن من شارك من الوفود العربية الفنانة أنجي أفلاطون، المنتسبة للحركة الشيوعية المصرية، والمعتقلة بعد ذلك بسبب انتمائها ذاك، يمكن قراءة هذا الحدث في تاريخ الثقافة والفن بوصفه من ملامح فكر الحداثة التي قرنت بين المدنية ومجتمع العدالة والحقوق والمواطنة، والتعبير عن الشغف بالتحوّل إلى هذا الأفق، والنضال من اجل تحقيقه، مفهوم “الحداثة” انتقل بعد ذلك إلى البيانات الفنية مقترنا بهذا الوعي، وهو ما يمكن الانتباه إليه في الاستعمال الأول لهذا المفهوم من قبل “جماعة بغداد للفن الحديث” في الأربعينات من القرن الماضي، التي كانت بدورها غارقة في السياسة.
من هنا يمكن فهم كيف استحال السجن أو الاعتقال بتهمة الانتماء إلى منظمة يسارية بالنسبة إلى عدد كبير من الفنانين العرب والعالميين إلى لحظة لإنضاج الوعي بالحداثة، ذلك ما يمكن لمسه على الأقل في لوحات أنجي أفلاطون المنجزة في سجن القناطر، حيث تصوّر ملامح السجينات والأسرّة المتراكبة، والقضبان، والفضاء المغلق المشحون، والداخل المنصهر في خواء الحياة والحركة، والألم المكتوم، والخرس العاتي المموه بالصخب المندفع… كان انتقالها الأسلوبي الضاج بتحولات الدقة والمهارة التشخيصية إلى الشطح التعبيري واضحا، ومؤسسا لحداثة لن تفتر تنوع انعطافاتها بعد ذلك في اللاحق من انجازها التشكيلي، ما بعد تخطي تجربة الجدران المغلقة.
وفي حوار أجري مع التشكيلي المغربي محمد شبعة سنة 2001 نشرته مجلة عالم التربية المغربية، تحدث عن تجربة الانتماء إلى العقيدة السياسية التي قادته للاعتقال، وهو ما كان من شأنه -على حد تعبيره- أن “عمق الإحساس بالخوف لدى الطلبة، لأنه نظر إلى هذا القمع كعقاب للفنان ليس لأنه قام بعمل سياسي وإنما لأنه أنجز عملا فنيا بمواصفات معينة”، سيتحدث عبداللطيف اللعبي، صديق محمد شبعة، وزميله في تجربة النضال السياسي والثقافي عبر مجلة أنفاس، عن لحظة السجن التي جعلت الفنان “يرسم دون كلل وبالأدوات المتاحة لتحضیر التقدم الجدید الذي سیعرفه عمله بعد الإفراج عنه”، وكأنما كانت لحظة السجن مقدمة للاختراق الأسلوبي الذي جعل من منجزه إحدى علامات الحداثة الفنية المغربية.
هل الانتماء السياسي قرين إدراك دور الأداة والأفق الفني؟ أعتقد أن العمق يتجاوز هذا الشرط التبسيطي، إلى الإيمان بإنسانية الفن ونهضويته المؤبدة، حيث يبقى الوعي بالمحيط والانغراس في الحواضن الفكرية والثقافية والسياسية، مركزي في بناء الصلة مع الجمهور، حيثما كانت قاعدة الوساطة في غاليري أو متحف، أو حتى في شارع عام.