هل باتت الأحزاب التونسية تُراهن على تشريعيات مبكرة؟

السؤال المركزي الذي يفرض نفسه في المشهد السياسي والانتخابي، على ماذا تراهن الطبقة السياسية التي وضعها الناخب التونسي في المراتب الأولى، وخاصة منها حركة النهضة؟
السبت 2019/10/26
الكل معاقب من طرف الناخب التونسي

في قصيدة “الجدارية” يتحدث محمود درويش عن “لقاء استئناف الموت بالحياة”، فيشير إلى مشاهد صادفته في رحلة “الموت المعاينة”، سبق له أن عايشها في لحظة الحياة السابقة، فيقول، وهو “سيّد الكلمات”، كأني رأيت هذه الرؤيا من قبل.

والحقيقة أن جانبا كبيرا من مشهدية ما بعد الانتخابات التونسيّة، يَستحضر بشكل رتيب وهجين لحظة ما بعد 14 يناير 2011، لا فقط في مستوى الخطاب والشعارات والعناوين، بل أيضا في مستوى الأخطاء والزلات، التي كادت أن تعصف بمؤسسات الدولة، وأن تأتي على التعاقد الاجتماعي الرمزي بين التونسيين.

والإشكال هُنا غير مرتبط بميثاقية الثورة ولا بمناقبية الانتفاضة، بل بالمنظومة السياسية التي استدرتها وبالميكانزمات الأخلاقية التي استصحبتها، وهي منظومة قد يظن ظان أنه تمّ تجاوزها بشكل راديكالي، فالفعل التراكمي للشعوب الديمقراطية يفرض تجاوزا وتصحيحا للأداء وللسلوكات.

فأن يصبح اتحاد الشغل مرمى لأسهم بعض السياسيين التونسيين، هو دليل على أن درس استكناه دور الاتحاد الوطني والسياسي والميثاقي وقدرته على تغيير المعادلات والتوازنات لم يُستكنه بالشكل المطلوب، وأن يصير جزء من المشهد الإعلامي في مرمى الاستهداف الرمزي والمادي من ذات المتربصين بالإعلام في 2011، لهُو برهان على أن مبدأ الدمقرطة واستقلالية القطاع لم يهضم كما يجب، وأن تفرض النهضة على “خُطاب ودّها” جملة من الشروط على قاعدة أنها تحظى بالشرعية والشعبية والمسؤولية الانتخابية، فهي قرينة دامغة بأن الحركة لم تستوعب التوافق كخيار استراتيجي والتشارك كأفق وطني جامع.

والمعضلة هنا أيضا غير متعلقة بوجود مؤسسات أو أفراد فوق القانون والمتابعة القضائية في حال المنظمة الشغيلة، أو تنزيه الإعلام من اقتراف أخطاء مهنية أو أخلاقية، أو مُصادرة حق النهضة باعتبارها الحزب الأول في الانتخابات في تشكيل الحكومة، ولكن المعضلة متصلة بعدم استيعاب الدروس السياسية الكبرى وعدم الاعتبار من الاستحقاقات الوطنية، وهو دليل لا فقط على هواية في الحُكم بل أيضا، وهو الأهمّ، على أن الطبقة السياسية غير مؤهلة بعدُ على البناء التراكمي وتأصيل المستقبل.

لا منتصر اليوم في الانتخابات البرلمانية، بلغة الأرقام كل الأحزاب متراوحة بين أنصاف مهزومين ومهزومين بالكامل، وعندما لا يُستنبط من النتائج المخيبة حقيقة أن الكل معاقب من طرف الناخب التونسي، وأن اللحظة الشعبية مرتبطة بضرورة الالتفات إلى الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية، فنحن حيال “سياسيي الصدفة بامتياز”.

وعندما يرفع أنصاف المهزومين شروطا لا يرفعها إلا المكتسحين لصناديق الاقتراع، وعندما يتشبث الحائزون على بعض المقاعد بشروط “بيضة القبان” في المعادلات الانتخابية العادية، وعندما يتمسك المهزومون أصلا بذات الخطاب والتصوّر، فتونس حيال ترف سياسي يأباه الزمن الاجتماعي والاقتصادي.

إن كان لحقبة ما بعد 14 يناير من فضل، ولها أكثر من فضل، أنها دعّمت الشرعية الانتخابية بشرعية التوافق، وأسست لتعاقد سياسي وحزبي قوامه التنازل الحزبي من أجل الصالح الوطني، وأكدت أن تونس لا تُبنى إلا بالشراكة الجماعية، لاسيما في زمن انتقال ديمقراطي تضمحل معه نسبيا ثنائية “المعارضة والمعاضدة”.

خطاب النهضة المعتزّ بنصف الهزيمة الانتخابية مع شركائه الافتراضيين غير مطمئن على مسار الحكم في البلاد، وخطاب الحلفاء المفترضين المنتشين بأنصاف الانتصار الاقتراعي، يعيد إلى الذاكرة خطاب المحاصصة وحكومات الاعتزاز بالشرعيات الانتخابية، مع ما اكتنفها من صدام مع مؤسسات الدولة الرسمية والمنظمات الوطنية العريقة والفاعلين الرمزيين.

السؤال المركزي الذي يفرض نفسه في المشهد السياسي والانتخابي، على ماذا تراهن الطبقة السياسية التي وضعها الناخب التونسي في المراتب الأولى، وخاصة منها حركة النهضة؟

فأن تضع حركة النهضة، وهو من حقها السياسي، شرط عدم التحالف مع “قلب تونس” و”الدستوري الحرّ”، ثم تفرض على الجميع تشكيل حكومة من لونها السياسي وتُسقط رئيس حكومة من داخلها، لهُو ضرب في الصميم لميثاقية التشارك والتفاوض.

وأن تبقى كافة الأحزاب المعنية بالمشاركة في الحكومة في “اشتراط” مستمر، تحت عناوين سياسية مختلفة، كلها تصب في خانة تحسين مقتضيات التفاوض واستدرار أرباح سياسية لم تجنها بشرعية الانتخابات، لهُو استنزاف لرأس مال المواطن والوطن والمتمثل في “الوقت”.

لا أحد بإمكانه أن ينفي على النهضة حقها في تشكيل الحكومة، ولا أحد أيضا بإمكانه أن يُصادر حق الأحزاب الأخرى في البقاء في صف المعارضة، ولكن لا أحد بإمكانه أن يقفز على حقيقة أن تونس اليوم لا تُحكم بمنطق “النصف زائد واحد”، ولا وفق “حكومة الأقليات”، حيث بإمكان المعارضة أن تقلب الطاولة على الحكومة في أيّ ظرفية.

لن نُجانب الصواب إن اعتبرنا أن غالبية الأطراف السياسية باتت تُرجّح فكرة الانتخابات المبكرة، وأنها أصبحت تحضر للذرائع الانتخابية والسياسية لها.

فالنهضة تمركز خطاب “الأمانة الانتخابية والمسؤولية الوطنية في الحكم”، والديمقراطية برسم “الرفض المبدئي للوجود الشكلي”، وحزب الشعب بعنوان “حكومة الرئيس التوافقي والشرعي بقوة الشارع”، و”الدستوري الحر” بمقدّمات عدم التحالف مع “إخوان تونس”، وكلّها مقاربات قادرة على إقناع جزء من الخزان الانتخابي ولكنها قد تأتي بـ”عقاب جماعي” آخر ضدّ الطبقة السياسية برمتها.

لن نقفز على الأحداث، ولن نرتمي في أحضان فرضيات واردة قد تسقط بين الفينة والأخرى، ولكن الأكيد أن فرضية إعادة الانتخابات باتت تراود الكثير من الأحزاب السياسية، التي تريد “حُكما عضوضا وحلفا فضولا”، يؤمّن لها سلاسة القبض على الرئاسات الكبرى، وبرلمانا هيّنا قليل التناوش والمُعارضة.

وسواء ذهبت البلاد إلى انتخابات برلمانية مبكرة، أو انتقلت إلى حكومة مضطربة وهشّة متأخرة عن الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية، فإن اقتناعا بدأ يترسخ من بيروت إلى بغداد إلى الخرطوم والجزائر ومنها إلى تونس، بأنّ هذه العواصم تستحق طبقة سياسية جديدة ووعيا حقيقيا وراسخا بأن “الوطن فوق الأحزاب” وفوق “صناديق الانتخاب”.

9