الإمارات تنجز أضخم موسوعة عربية للتراث الشعبي

للشعوب العربية تراث ثقافي ثري وغني ومتنوع تنوع الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج، لكن لم تقع العناية بهذا التراث خاصة غير المادي، لذلك هو عرضة لخطر الاندثار، وهو ما يتصدى له الكثير من الباحثين العرب، ومنهم الباحث المصري مصطفى جاد، الذي أعد مشروعا عربيا ضخما بعنوان “مكنز التراث الثقافي غير المادي”. “العرب” كان لها هذا اللقاء مع جاد حول أهمية المكنز وماهيته.
يشكل “مكنز التراث الثقافي غير المادي” المختص بالتراث الشعبي في العالم العربي في أجزائه الثلاثة والصادر عن معهد الشارقة للتراث، ثمرة جهد وطموح وحلم وسنوات طويلة من العمل الدؤوب للدكتور مصطفى جاد حتى إذا اكتمل شارك في مراجعته 150 من خبراء التراث الشعبي والأنثروبولوجيا والفنون في العالم العربي الذين ناقشوا وعلقوا وصوّبوا، وكل ذلك جنبا إلى جنب، الجهود التي بذلتها فرق العمل بالمعهد بقيادة الدكتور عبدالعزيز المسلم رئيس المعهد، وبالإتقان التنظيمي للدكتور محمد حسن عبدالحافظ؛ المدير الأكاديمي في المعهد، ومعه أعضاء فريق الإدارة الأكاديمية.
يقول الدكتور مصطفى جاد إن “قصة صدور المكنز تُمثل نموذجا للإرادة العربية في تحقيق حلم انتظرناه منذ أكثر من نصف قرن، فمن يتابع توصيات المؤتمرات والملتقيات العربية خلال العقود السابقة، يجد توصية مشتركة تربط بين هذه الفعاليات، وتأتي بصيغ مختلفة، مثل: إنشاء أرشيف عربي موحد للتراث الشعبي، أو العمل على إطلاق قاعدة بيانات للتراث الشعبي العربي، أو العمل على تأسيس مركز عربي للتراث الشعبي، أو أهمية إعداد مكنز للتراث الشعبي العربي… إلخ. ولم نستطع خلال هذه العقود أن نتابع تنفيذ تلك التوصيات، حتى استطعنا في النهاية تحقيق هذه الخطوة التي هي بالنسبة إلي أقرب إلى الحلم، حتى أنني قد اختلط عليّ الحلم بالحقيقة. فعلى مدى العشرين عامًا المنقضية، لم تفارقني قضية حفظ ذاكرتنا الشعبية العربية”.
تكاتف الجهود
يشير جاد إلى أن وظيفة ومفهوم “المكنز” كأداة للتوثيق تختلف كل الاختلاف عن وظيفة ومفهوم “الموسوعة” أو “دائرة المعارف”، فالمكنز في شكله المطبوع هو أداة تكشيف من أجل تزويد قاعدة البيانات الرقمية بالمادة التراثية ليسهل استرجاعها مرة أخرى في وسائطها المصورة والمرئية والسمعية والمدونة. والمكنز في صورته الورقية مرتب ترتيبًا موضوعيًّا في مجلد وترتيبًا هجائيًا في مجلد ثان، حتى يسهل العثور على رقم التصنيف الخاص بالعنصر التراثي المراد توثيقه. ويقوم الموثق باستخدام المكنز في التعرف على التصنيف الموضوعي للعنصر التراثي، وكذا التعرف على رقم هذا العنصر، ثم يقوم بعد ذلك بإدخال ما لديه من معلومات حول هذا العنصر بقاعدة البيانات الرقمية. أما الموسوعة، أو دائرة المعارف، فهي تحتوي على المادة العلمية التي نريدها مباشرة في ترتيبها الهجائي، وليست وسيلة للتكشيف أو التوثيق. ومثال ذلك إذا بحثنا عن موضوع مثل “خيال الظل” في المكنز والموسوعة.
ويضع جاد تعريفًا علميًّا لمكنز التراث الثقافي غير المادي بأنه “قائمة بالواصفات المرتبطة بالتراث الثقافي غير المادي (التراث الشعبي) وعلاقاتها التكافئية والهرمية والترابطية، ويكون ترتيب وعرض الواصفات وعلاقاتها بما يخدم بكفاية وفاعلية في تحليل محتوى المادة التراثية، وتستخدم واصفات المكنز في تكشيف واسترجاع عناصر التراث الشعبي بوسائطها المتعددة”.
يرى جاد أن الثقافة الشعبية العربية تحفل بآلاف العناصر التي تحوي كمًّا من التفاصيل والعلاقات التي من الصعب الوقوف عليها أو قراءتها أو تحليلها، دون أن نمتلك أدوات منهجية قوية لتوثيقها وحفظها وإتاحتها. مثلا ترتبط عادات الزواج- رأسيًّا- بعادات الخطوبة، والمهر، وتقديم الشبكة، والدخلة.. إلخ، كما ترتبط – أفقيًّا – بعناصر التراث الشعبي الأخرى كالموسيقى والأغاني التي تؤدى في احتفالية الزواج، والمعتقدات الخاصة بحماية العروسين، وفنون الفرجة، والرقصات الشعبية أثناء الزفاف، وفنون الزينة والحلي للعروس، وغيرها.
العرب لديهم ثروة هائلة من التراث الشعبي لكنها حبيسة الشرائط أو الأقراص الممغنطة أو الصور أو الأفلام
ومن ناحية ثانية، يؤكد أن هذه العناصر تتداخل مع عناصر أخرى عبر المكان، فنجد تنوعًا ثقافيًّا في عنصر ما في بيئات عدة، كما نجد تشابهًا أو اختفاءً لعنصر آخر. أما إذا توسعت الرؤية خارج النطاق المحلي، فسنجد أننا أمام كم لا حصر له من التنويعات الثقافية للعنصر الواحد إذا تتبعنا مساراته من الخليج العربي، فالشام، مرورًا بمصر والسودان وشرق أفريقيا، وصولاً إلى شمال أفريقيا. ومن ناحية ثالثة، يتدخل عامل الزمن، فنكتشف عناصر من الثقافة الشعبية لا تزال تعيش بيننا رغم مرور السنين، وقد نقف على عناصر أخرى كانت حية بين الجماعة الشعبية في زمن ما، غير أنها اختفت من الذاكرة تمامًا، وقد نقف على عناصر تطورت وتحوّرت وتبدلت وظائفها وعاشت بيننا في ثوب جديد. وعلى المستوى الميداني تحمل الجماعات روايات متعددة ومتداخلة حول تراثها الشعبي في صورة حكاية، أو سيرة شعبية، أو معتقد، أو ممارسة شعبية، أو فنون، أو حرف تقليدية.. إلخ. كما تحفظ الدراسات المنشورة والوسائط المسجلة بأنواعها كمًّا هائلاً من المواد التي تحتاج لمنهج توثيق علمي رصين لإتاحتها.
يؤكد جاد أن هذا المكنز جاء ليكون الأداة المنهجية لعمل قاعدة بيانات توثق جميع ما ذكرناه، حتى يسهل استرجاعها في أي وقت.
ويرى جاد أن فكرة “مكنز الفولكلور العربي” ظلت متناثرة في بعض الدول العربية، واكتفت بعضها بمحاولات إعداد مكانز وطنية، ومن بينها المغرب والأردن والإمارات وسوريا، مما جعلنا نتخذ مسارًا آخر لتحقيق حلم إعداد هذا المكنز، وهو الشروع في مجموعة من ورش العمل في جولات علمية ببعض الدول العربية، فضلاً عن الاشتراك في بعض من المشاريع التي من شأنها أن تخدم الإطار المنهجي للمكنز. وقد تحقق جانب مهم في هذا الإطار بتأسيس قسم “مناهج الفولكلور وتقنيات الحفظ” بالمعهد العالي للفنون الشعبية بالقاهرة، والذي تم من خلاله تدريب عشرات الطلبة على كيفية جمع وتوثيق عناصر التراث الشعبي باستخدام منهج المكنز، فضلاً عن تدريس بعض المواد العملية في هذا الإطار. هذا إلى جانب الجهد الذي بدأناه منذ عام 1999 حتى عام 2011 بتدريس مادة أرشيف الفولكلور بعدة كليات.
حلقة فارقة
حول المراجعات العربية للمكنز، يقول جاد “لم يكن من الطبيعي أن تتمّ دعوة جميع الخبراء العرب المهتمين بالتراث الثقافي غير المادي وتوثيقه إلى ورش المراجعة الثلاث، غير أن الأمر فاق حدود الخيال عندما تصدى الكثير من الخبراء في ربوع المنطقة العربية للمشاركة في عمليات المراجعة.
وهذه المبادرة المهمة التي تصدى لها معهد الشارقة للتراث لإنجاز هذا المكنز، تُخرج المكنز من مجرد أداة منشورة أو قاعدة بيانات للاسترجاع، إلى مشروع مؤسسي عربي”.
ويشير جاد إلى أن التصنيف الموضوعي في المكنز العربي ارتبط باتساع المجالات المرتبطة بالتخصص، الأمر الذي جعلنا نحدد الإطار الموضوعي للتصنيف بسبعة مجالات رئيسية، ولم يختلف التصنيف الذي اقترحناه هنا عن الاتجاه العالمي الذي طرحته اليونسكو في مجالات التراث الثقافي غير المادي، فقط قمنا بإجراء بعض التعديلات التي تساير الحالة العربية، وقد جاء المجال الموضوعي للمكنز العربي كالتالي:1 ـ موضوعات التراث العامة. 2 ـ المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون (المعتقدات والمعارف الشعبية). 3 ـ الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات (العادات والتقاليد الشعبية). 4 ـ أشكال التعبير الشفهي (الأدب الشعبي). 5 ـ فنون وتقاليد أداء العروض (فنون الأداء الشعبي). 6 ـ فنون التشكيل الشعبي. 7 ـ المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية (الحرف والمهن والأدوات).
ويرى جاد أن إعداد أي مكنز في أي من مجالات المعرفة يرتبط بحجم الإنتاج الفكري في هذا المجال، ومن هنا تتعدد أقسامه، وتفريعاته، وعدد واصفاته، وعلاقاتها الهرمية والترابطية. وإذا تناولنا حجم الإنتاج الفكري في مجال التراث الثقافي غير المادي في العالم العربي، نجد أننا أمام ملايين- نعم ملايين- المواد التراثية المتناثرة والتي لم تحظ بجهد تنظيمها في إطار منهجي حتى نتمكن من استرجاعها.
وقد انعكس هذا الحجم الهائل من الإنتاج الفكري للتراث الثقافي غير المادي، على حجم المكنز موضوعيًّا وعدديًّا، وهو ما نلحظه في التصنيفات الهرمية المتعددة والمعقدة بالمكنز وعلاقاتها الترابطية. إلى جانب التشعب الجغرافي بكل بلد عربي، والذي نتج عنه 12330 واصفة مستخدمة، و9130 واصفة غير مستخدمة وخارج السياق، ويحوي القسم الهجائي جميع واصفات المكنز – المستخدمة وغير المستخدمة – وقد توزعت الواصفات بالمكنز حسب طبيعة كل مجال من المجالات السبعة في القسم المصنف، ليصل مجموع وصفات المكنز إلى 21460 وصفة.
ويؤكد جاد أننا نملك ثروة هائلة من تراثنا الشعبي في معظم مؤسساتنا العربية، غير أنها محفوظة في شرائط أو أقراص ممغنطة أو صور أو أفلام، وغيرها. وقد يتم عمل قاعدة معلومات مصغرة في هذه المؤسسة أو تلك، غير أننا لم نصل بعد لمرحلة أرشيف عربي يمكننا أن نتواصل معه، على نحو ما نجده في المواقع العالمية التي تنشر موادها التراثية على قواعد معلومات متقدمة.
ويعد مشروع المكنز العربي في صورته الإلكترونية حلقة فارقة في جمع عناصر التراث الشعبي المتفرقة في مؤسساتنا العربية، وسيتم إتاحتها للجميع في أنحاء العالم، وهو حلم اقترب من التحقيق بصدور هذا المكنز الذي احتضنه خبراء التراث الثقافي والأنثروبولوجيا وعلم المعلومات في العالم العربي.