الفضاءات المشتركة تطوع التكنولوجيا في ثورتها على المكاتب التقليدية

غيرت التكنولوجيا الحديثة العديد من المفاهيم وطريقة النظر إلى الأمر، لتخلق فلسفة عصرية تتماشى مع التوجه نحو المدن الذكية، وذلك بطرح مشاريع الفضاءات المشتركة للعمل، وهي أماكن إلى جانب ما تتيحه من إمكانية لممارسة نشاط مهني معين بعيدا عن الحدود الضيقة التي تفرضها المكاتب الكلاسيكية، وهي أيضا تتيح إمكانيات هائلة لربط أصحاب المشاريع ورواد الأعمال ببعضهم وإحداث شبكة تعامل تتسع أكثر فأكثر.
تونس- خلال زيارة أحد فضاءات العمل المشترك في العاصمة التونسية استقبلتنا في البداية شابة في العشرينات من عمرها، فتحت لنا الباب وبابتسامة عريضة سألتنا كيف يمكنها أن تساعدنا. في البداية، اعتقدنا أنها من مالكي المكان أو من يديرونه، لكن اتضح فيما بعد أنها واحدة من عشرات الأشخاص الذين يترددون على هذه المكاتب المطروحة للتأجير، لتستفيد من الخدمات اللوجستية التي يقدمها دون تكبد عناء التفكير في توفير أجهزة الطباعة أو الهواتف أو شبكة الاتصال بالإنترنت أو حتى اللوح المعلق على الحائط الذي يتيح الكتابة عليه.
أميمة، هذه الشابة البالغة 22 من العمر، ليست سوى واحدة من مجموعة تتكون من 8 شبان آخرين اجتمعوا هنا في هذا الفضاء للمشاركة في دورة تدريبية حول استعمال التطبيقات الحديثة، فكل ما يتطلبه الأمر هو إجراء اتصال بسيط خلاله يتم الاتفاق على نوع الخدمات التي يحتاجها التدريب ومدته ومن ثمة سعر الخدمة.
ابتسامة أميمة، التي استقبلتنا بها عند الباب، توحي بأجواء لطيفة في الداخل وشيء من الحميمة والراحة التي يتسم بها منزل العائلة وتضيع في أجواء المكتب لما فيه من رسمية. هذا الهدوء والطابع المريح، من بين أسباب كثيرة أخرى، ما دفع الكثيرين إلى الإقبال على فضاءات العمل المشترك التي تشهد ازدهارا في الفترة الأخيرة، مستفيدة من الإمكانيات الهائلة التي توفرها التكنولوجيا الحديثة، وهو ما جعل هذا النوع من المشاريع تسير في نسق الاتجاه السائد حاليا وتساير ذوق العصر الحالي الذي غيرت فيه التقنيات الحديثة فلسفة مساحات العمل.
أصبحت مكاتب العمل، بشكلها التقليدي المعروف والمتسم بالانغلاق والتحفظ والرسمية، شيئا من الماضي يتعارض بشكل صارخ مع التوجهات الحديثة للعاملين التواقين إلى مساحات مفتوحة توحي بالشفافية في التعامل وتضفي المزيد من الراحة. ويضاف إلى ذلك أن المكاتب العصرية لم تعد تستسيغ فكرة الارتباط بمكان معين أو عنوان دائم،
وهو الطرح الذي يسطر حدوديْ المكانية والزمانية، في حين أن أبناء عصر التكنولوجيا المتطورة بنسق متسارع لا يمكن ضبطهم في أطر محددة ومسطرة على الطريقة التقليدية، فيما اتخذوا من الابتكار والتجدد عملة
يراهنون عليها لتشكيل المستقبل. ونزع الكثير من أصحاب الشركات الناشئة للتعامل مع فضاءات العمل المشتركة باعتبار كل المرونة التي ترسخها في هذا النوع من العلاقات المهنية، فهي توفر عليهم الانشغال بالأمور اللوجستية باعتبار الكم الكبير من الخدمات التي تقدمها، بدءا بتجهيز المكتب مرورا بالأدوات الإلكترونية والأجهزة والتقنيات الحديثة التي تتطلبها عملية تسيير أي عمل عن بعد وإدارة فريق عمل وإنجاز المعاملات المهنية.
قالت بثينة، المشرفة على فضاء العمل المشترك في جهة المنار بالعاصمة التونسية وهي منشغلة في إنجاز البعض من الأعمال، لـ”العرب”، “نحن نجهز المكان الآن لاستقبال مجموعة من الزبائن بعد قليل”.
وتابعت “ليس لدينا أوقات عمل محددة، نطوع جدول أعمالنا بحسب رغبة زبائنا، أحيانا نبقى هنا حتى منتصف الليل، فبعد أن يغادر من يرتادون المكان نظل نحن بعدهم لإنجاز البعض من المهام”، فهذا الفضاء يجب أن يكون جاهزا للعمل فيه في أي وقت وفي كل الظروف.
وخصصت قمة “أفريك آب”، التي عقدت الأسبوع الماضي في تونس وناقشت واقع المؤسسات الناشئة والمدن الذكية في أفريقيا، إحدى ورشاتها لعرض فكرة آفاق العمل في العصر الرقمي، حيث قدم طارق أبوزينب، مدير شركة “ريغوس” في أفريقيا، مداخلة يشرح فيها مستقبل فضاءات العمل المشترك.
وأكد أبوزينب لـ”العرب” أن عملهم يستفيد أساسا من التطورالتكنولوجي في العالم وانتشار استعمال الهواتف الذكية، حيث أطلقت شركة “ريغوس” تطبيقة إلكترونية تتيح لزبائنها حجز المكاتب والخدمات التي يريدونها عن بعد دون أن يكونوا مضطرين إلى تحمل مشقات التنقل، وهو ما يوفر عليهم الوقت والأموال.
وأشار إلى أنه في العصر الحالي أصبح الحديث أكثر على الأجهزة الذكية والمدن الذكية والآلات الذكية، “هذا بالضبط ما دفعنا إلى طرح المكاتب الذكية وأساليب التعامل الحديثة في العمل”.
وأوضح أن هذه الشبكة العالمية من مساحات العمل الملهمة تتيح للشركات الحديثة أن تعمل أين ومتى وكيف ما تريد بطريقة أكثر مرونة من أي وقت مضى. ويرى أن “ريغوس” توفر فرصة للنمو دون مخاطرة أو التزام، وتجذب شبكة متنوعة من 2.5 مليون شخص من رواد الأعمال من الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى الشركات متعددة الجنسيات الكبيرة.
وتأسست شركة “ريغوس” في عام 1989، واضعة نصب عينها هدفا رئيسيا يتمثل في مساعدة الشركات على اختيار أنسب طريقة للعمل مع فرقها. وتملك حاليا شبكة فضاءات عمل مرنة تقدر بأكثر من 3600 مركز.
وتنعش ريغوس نشاطها من منطلق ما يتوفر لها من معطيات تفيد بأن حوالي 50 بالمئة من رجال الأعمال وباعثي المشاريع في جميع أنحاء العالم يعملون نصف الأسبوع خارج مكاتبهم.
وتشهد تونس في السنوات الأخيرة انتعاشة نسبية لفضاءات العمل المشتركة والمفتوحة لاستقبال رواد الأعمال من كل التوجهات والمجالات، ويتركز أغلب هذا النوع من المكاتب المرنة في العاصمة تونس، غير أن البعض من المناطق البعيدة عن العاصمة بدأت تشهد بدروها ظهورا لمشاريع من هذا النوع؛ على غرار فضاء “غو” الذي افتتحته، منذ ما يقارب العامين في مدينة القيروان وسط تونس، هيفاء بن فرج وهي شابة تونسية في الثلاثينات من عمرها.
تقول هيفاء إنها تسعى، من خلال توفير هذا الفضاء لأبناء القيروان، أن تساهم من جهتها في إحداث فرص عمل جديدة بالمنطقة إلى جانب مد يد العون لأصحاب الأفكار أو المشاريع أو رواد الأعمال الذين يواجهون الصعوبات اللوجستية في أن يكون لهم مكتب تحت تصرفهم يوفر لهم كل الخدمات التي يحتاجونها لإطلاق مشاريعهم ومتابعتها.
ويعتبر البعض أن المكاتب المشتركة والمفتوحة تنسجم مع طريقة تفكير جيل الإنترنت، إذ أن فضاءات العمل المشتركة في تونس وفي غيرها من الدول العربية شجعها ازدهار التجارة الإلكترونية والتسويق عبر الإنترنت، إلى جانب الاستثمار أكثر في التطبيقات الالكترونية بما يلغي كل الحدود الزمانية والمكانية لصالح التطوير والتجديد والابتكار.