موقد الكيروسين

ليس أدل على سرعة الانفعال، غضباً حتى الشجار، أو دموعاً حتى انتفاخ العيون واحمرارها، من رأس بابور الكيروسين الهادر. فكأن الرأس في حال السكون لا يفارقه الإحساس بأنه يقوم في أعلى خزان من الوقود المضغوط القابل للاشتعال.
الأحد 2019/09/29
"أُنكش تِوَّلع"

كثيرا ما تضيق الحياة بالناس، لذا نرى الكثيرين ينفعلون لأبسط الأسباب، فينفجرون بغضب قصير الأمد يعقبه هدوء ما قبل الزوابع أو بعدها. ففي القاهرة ومنها، نشأ وتفشى تعبير “أُنكش تِوَّلع” وهو الشخص، أو حال الشخص الذي ينفعل لمجرد كلمة أو احتكاك بسيط. وللمفارقة، لقد رأيت بنفسي، صغيراً، اللقطة التي أظنها منشأ هذا التعبير. ففي منتصف الستينات، كانت المحال في وسط القاهرة، تكاد تخلو تماماً من البضائع المستوردة، ولا تعرض سوى المنتوج المحلي من السلع والألبسة. وكان متوسلو الأرزاق، من الباعة على الأرصفة، يعرضون أشياء صغيرة لافتة للانتباه، هي مجرد سلع عابرة لا تأخذ حيزاً من الاستخدام اليومي، كأدوات بسيطة مصنوعة من أسلاك، لتقشير البطاطس والكوسا والجزر، أو مواد لإزالة البقع والأحبار. لكن الأطرف من بين كل تلك العروض، أن يحمل صاحب “السبوبة” موقد كيروسين، أو “بريموس” في أصل التسمية، وهو اختصاراً “بابور الكاز”،أيقونة مطابخ الناس في تلك الفترة، ووسيلة الطهي التي تجاوزت مواقد النار التاريخية. ففي قفة بجانب البائع، الذي ينادي واقفاً ممسكاً بالبابور مشتعلاً؛ كمية من قطع صغيرة، مقدودة من حجارة الصخور النارية المنصهرة. ينفخ رأس البابور الهادر، فيُطفئ شعلته، ثم ينكشه بقطعة الصخر الصغيرة، فيعود إلى الاشتعال. هنا، تظهر أمام المارة، الحاجة إلى الاستعاضة عن الكبريت المتعثر بالقطعة الصخرية الفعالة. يُطفئ الشعلة ثم ينكشها ببساطة فتعود إلى اشتعالها، فيما هو ينادي “أُنكش تِوَّلع”!

ربما تكون هناك مفارقة متفرعة، وهي أن أصحاب الفضل على دنيانا، باختراع موقد الكيروسين، هم حصراً وتاريخياً السويديون الهادئون الذين لا تُشعل “النكشة” رؤوسهم. وهم أيضاً الذين أنتجوا أعواد الثقاب السديدة. على الرغم من ذلك، انطلق الرأس المشتعل، من السويد الباردة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر.

ليس أدل على سرعة الانفعال، غضباً حتى الشجار، أو دموعاً حتى انتفاخ العيون واحمرارها، من رأس بابور الكيروسين الهادر. فكأن الرأس في حال السكون لا يفارقه الإحساس بأنه يقوم في أعلى خزان من الوقود المضغوط القابل للاشتعال. ومثلما يحدث مع كل بابور أو في كل اشتعال، هناك من يتولى التأجيج لكي لا يتعثر. فلا ننسى الإبرة ذات ذراع، لتسليك عين أو ثقب اندفاع بخار الكيروسين إلى أعلى الرأس، لكي تظل النار ومعها الهدير، في ذروة الاشتعال. هكذا هم سريعو الانفعال، سواء أنتجوا ألسنة النار سريعة الاندلاع وسريعة الإخماد، أو أن عيونهم، سريعة إدرار الدمع عند الهطول، وسريعة التبسم عند الرضا!

24