"العادي" تصنيف لا طبيعي ينفي ما لا يتطابق معه

سطوة "العادي" وسيلة لخلق التجانس ضمن التقليد الثقافي للحفاظ على الشكل القائم.
الثلاثاء 2019/05/21
الأمر يتجاوز كونه اعترافا على ورق

تمت شرعنة العادي ليتحول إلى مقياس ومعيار لما هو “غير عاديّ”، وتمت برمجة أفراد المجتمعات للقبول والاقتناع به على أساس أنه الشكل الطبيعي للعديد من المفاهيم والمواقف والأساليب. وتمكن محاولات سبر أغوار العادي وفك شيفرته ونفض غبار غموضه من معرفة أن وضع هذا المفهوم وترسيخه على مر الأزمنة لم يكن سوى وسيلة لفرض سطوته وانتشاره من قبل القوى الثقافية والسياسية لبسط هيمنتها وضمان استمرار النظام الذي وضعته، إذ أن كل الأشكال الجديدة والمختلفة التي تخرج عن سياق ذلك “العادي” المتفق عليه ليست سوى تهديدات للشكل البشري القائم تقيد الوعي الذي إذا ما تحرر من سطوة العادي سينفيه ويهمشه.

يظهر العاديّ من حولنا دون أن ندركه، هو أشد الأشكال والمفاهيم سيطرة وانتشارا، لا يثير الشبهة ولا الانتباه، واضح بشدّة حد التلاشي، وكأننا مبرمجون على الاقتناع به وتقبله دون أي سؤال. هناك الشخص العاديّ، والفيلم العادي، والموقف العاديّ، هو ما يتسرب إلى الذاكرة دون أن نعيه، هو أيضا ما يشكل الذاكرة بوصفه عتبة الوعي الأولى، أي أننا نعي العاديّ ونشرعنه ليتحول إلى مقياس ومعيار لما هو “غير عاديّ”.

بالإمكان لإيضاح مفهوم “العاديّ” الاقتباس من عمل فنيّ أو رواية أو حدث ما، لكن فعل الاقتباس نفسه ينزع عن “العاديّ” قياسيته، ومجرد التأشير يكسبه لبسا وغموضا ما ويحرره من خفائه، ليبق دوما أشبه بأثر يمحى بمجرد التأشير عليه، يتغير بمجرد اختلافه وكشف معالمه.

التردد بـ”الاقتباس” للإحالة إلى العادي، يحيلنا إلى أهم خصائصه الثقافية، التي هي “الخارجية”، أي أنه ليس جوهريّا في الأشياء والذوات التي تظهر  بصورة “عاديّة”، هو وليد تقليد ثقافيّ، ومجموعة من القوة السياسيّة، التي تحدّد بداية نموذج “العاديّ”، ثم تروج له أو تفرضه، ما يعني أن العاديّ مُنتج في ذات الوقت عمليّة ذات أثر واقعيّ ورمزيّ، لا حالة طبيعية، بصورة أخرى.

العاديون هم الكتلة التي لا تحتجّ ويروج لاستكانتها بأنها انتصار وهم من يشرعنون للفاعلين سطوتهم

تصنيفات “عادي” و”لا عادي” ثقافيّة لا طبيعيّة، كحالة مفهوم الطبيعة البشريّة، والفطرة، والحسّ السليم، التي يمكن النظر إليها كمجموعة من الأفكار والتجارب الراسخة لدى الكثيرين التي لا تتم مناقشتها، أي أن “الإنسان العادي” من المفترض أن تكون صفة مشتركة لدى جميع البشر، لكن، لدى اليونان مثلا، كان “العاديّ” هو الحرّ، لا “العبد” أو “البربري” ذات الشيء في التاريخ الكولونياليّ، هناك أقوام ليست عاديّة، لا بدّ من إخضاعها للمعيار بالقوة وإعادة تأهيلها لتطابق النموذج “العاديّ”، لتتحول من غرباء أو أعداء أو همج إلى مواطنين عاديين يصوتون ويدفعون ضرائبهم.

تروج الثقافة للعاديّ بوصفه منصاعا، مستهلكا، آمنا، لا يبحث عن المشكلات، تربي ذوقه ووعيه بالعالم، تداري رغبات حياته بالحد الذي يضمن الربح واستمرار السيادة. فالعادي نقيض العدو، والفنان، والكوميديّ والمجنون، والحالم، العادي هو معيار كتلة بشريّة وفرد، قصيدة وديوان.

فالأشكال والصفات العاديّة تنتج الشكل القائم وتتبناه فقط عبر استمرارها وعدم مساءلتها لشكلها الذاتيّ، كأفراد. العاديون هم الكتلة البشريّة التي لا تحتجّ، ويروج لاستكانتها بأنها انتصار ونجاح، هم الكومبارس بالنسبة للنظام السياسيّ، من يتحركون في الخلفية  ويُكسبون “المسرحية” معناها، في ذات الوقت هم من يشرعنون للمؤدين الفاعلين سطوتهم، هم متابعو النجوم، والمصوتون للرئيس، المنتظرون بصمت على طابور ما.

هم لا فقط يحترمون القانون، بل يرون فيه قوة موجهة ضدهم، لا نظام يمكن تغييره لمصلحتهم، هم القابعون في الظلام في المسرح، الذين يتحملون سوء الأداء ولا يصرخون بالممثلين أو يتأففون من سوء ما يرونه، هم ببساطة، الساكتون على مضض، المصفقون لشاعر سيء أو كاتب مبتذل.

العادي والنظام الشمولي

سوء فهم بين فرانكشتاين وتكوين العالم
سوء فهم بين فرانكشتاين وتكوين العالم

يظهر العادي في الأنظمة الشموليّة بوصفه معيارا للمواطن الصالح، المطيع، الذي لا يتسبب بالمشكلات، وهنا تبرز الطاعة نفسها بوصفها مُنتجا سياسيا، مجموعة من التمرينات وأشكال الأداء العلنيّة لينشأ المواطن المطيع، الذي يتبنى الحكايات الوطنيّة، ويتابع ذات نشرات الأخبار.

فالعادي هنا هو الخاضع لا فقط لمعايير ثقافيّة خارجيّة، بل أيضا المنصاع للشكل المادي المهيمن دون مساءلته إما خوفا أو يأسا، يقطع الحواجز بصمت، ويصبر على انقطاع ساعات الكهرباء، ولا مشكلة لديه في عدم إبداء رأيه.

العاديّ هو المختفي الظاهر بشدّة، من نراه في خلفيات التقارير التلفزيونيّة، هو الأكثر خوفا وفي ذات الوقت الأكثر قوة، لأن له كثيرا من الأشباه، ولو بصمت متفقين على الطاعة، ببساطة لأنهم هدف أي نظام سياسي ينادي بحقوق المواطن العادي، الذي يريد فقط متابعة حياته، والذي تتوجه المنتجات الثقافيّة الوطنيّة له، ترسم حدود حريته وكيفيّة التحرك ضمنها، لتبدو الأشكال الفنيّة أِشبه بنقاط تحذير ترسم المساحة التي يمكن اللعب ضمنها دون التعرض للخطر.

نتلمس ملامح العادي في الأنظمة الرأسمالية بوصفه المُوصى به، هو وسيلة تسويقيّة تخاطب من لا يبحث عن المغامرة أو لا يريد أن يدفع أكثر، مثلا حين نشتري تطبيقا أو نشترك بخدمة جديدة هناك دوما خيار “هل تريد الإعدادات القياسيّة؟” والتي تتبعها كلمة “موصى بها” والتي عادة تكون متوافرة بالحد الأدنى.

وهناك اللاقياسيّة الأشمل والأكثر منفعة، لكن لنفكر بكلمة الموصى بها، موصى بها لمن؟ ولمنفعة من؟ “العادي” ضمن سياسات التسويق يراهن على الرغبة بالاختلاف، والنزعة بالتميز. فاللاقياسي هو وعد بالسعادة والمجد وتجربة أشد تأثيرا، كما الفرق أثناء شراء مقاعد المسرح، التي يختلف ترتيبها بحسب سعرها، فكل مقعد يحمل تجربة مختلفة للمشاهدة، دلالات سياسيّة وثقافيّة كالاختلاف بين مقعد “عين الأمير” و”الشرفة” و”المقاعد الخلفيّة”.

تروج المنتجات الثقافيّة للعادي كلعنة، وحالة منبوذة، بعكس الناجح والمتميّز والمستفيد، وهنا يأتي تأثير هذه المنتجات السحري والأيديولوجي، إذ ترسم صورة للمختلف بوصفه قادرا على التغيير، الذي رفض الشكل القائم ولو على الصعيد الفردي.

هذا الرهان على الرغبة الداخليّة لدى الأفراد بالاختلاف، يحرك الكثير من الأشكال الرومانسيّة، التي تعد كل واحد منا بأنه “ليس عاديّا” وأن هناك جوهرا سحريا داخله لا بد من اكتشافه، ما يميع الحدود بين المهارة والغرور الذاتي، بين المبدع والمديوكر (دون موهبة).

الأهم أن سهولة أن تكون عاديا وما يقابلها من صعوبة التميز، تجعل المشكلة لا في المختلف، بل في العاديّ بوصفه شديد الالتصاق بالجلد، وواسع الطيف، ويعطي الحس بالأمان والانتماء. وهنا تظهر هيمنته هو أشبه بأيديولوجيا لا يمكن رصد تأثيرها ببساطة، العادي هو شكل العالم الذي لا يثير الجدل، صوره المتتالية التي ننصاع لها ونتبنى محتواها دون أي مساءلة، فـ”المختلف” ليس نقيض العاديّ، بل نقيض تصور الذات ضمن هذا العالم، خصوصاً أن العادي يتغير ويتحول ويتقمص كل نموذج أو ذوق أو حس مختلف ويعممه ويتبنّاه.

أزمة العادي

تظهر أزمة العادي في شدة رفضه للمختلف أو من يريد نيل الاعتراف كون النظام القياسيّ ينفي من لا يتطابق معه. وهذا ما نراه في الاعتراف القانوني الذي يسعى له المتحولون جنسيا أو المثليون، فالأمر يتجاوز كونه كلمة على ورق، فالتصنيف والاعتراف القانونيّ أيضا وليد مؤسسات طبيّة ودينيّة ترسم المعيار وتضبطه. والأصعب نراه على المستوى الاجتماعي والثقافيّ، لكي تكون مقبولا وجديا لا بدّ من إتقان

للدور “العادي”، إتقان يحمي فئة المتشابهين والماهرين بتقديم أنفسهم علنا كعاديين. وهذا ما نراه في الخوف الذي يتحرك داخل “الرجولة” حين يؤدي رجل دور امرأة مثلا، ويقتبس من خصائصها الثقافيّة، إذ يتعرض للعنف والسخرية أحيانا، كونه يؤدي ما لا يتطابق مع الشكل العاديّ، الجدي، الموجود في الحياة اليوميّة.

الأمر يشبه ما يحدث حين نشاهد مسرحية أو فيلما يؤدي ممثلوه بصورة سيئة، نحن لا نصدقهم، لأنهم لا يبدون طبيعيين أو عاديين، هم يهددون متقني الدور أو الشكل المتخيل الذي نمتلكه مثلا عن الرجل العادي أو المرأة العاديّة، الخاضعين للتقليد التاريخي الطويل للتقسيم الثنائيّ، الذي لا نسائل جدواه أو معناه، يتضح الأمر أكثر حين التعرف على غرايسون بيري مثلا، الفنان الذي يرتدي ثياب “النساء” بوصفه رجلا، ليحدثنا في أعماله عن أزمة دور الرجل العادي وفي ذات الوقت القسوة التي يمارسها الدور رمزيا وماديا على الرجل والمرأة على حد السواء والتي تبدأ بالثياب وتصميمها وتنتهي بالنظام السياسي والاقتصاديّ.

كيف نصبح عاديين؟

غرايسون بيري الفنان الذي يرتدي ثياب النساء بوصفه رجلا، ليحدثنا في أعماله عن أزمة دور الرجل العادي وفي ذات الوقت القسوة التي يمارسها الدور رمزيا وماديا على الرجل والمرأة على حد السواء والتي تبدأ بالثياب وتصميمها وتنتهي بالنظام السياسي والاقتصادي
غرايسون بيري الفنان الذي يرتدي ثياب النساء بوصفه رجلا، ليحدثنا في أعماله عن أزمة دور الرجل العادي وفي ذات الوقت القسوة التي يمارسها الدور رمزيا وماديا على الرجل والمرأة على حد السواء والتي تبدأ بالثياب وتصميمها وتنتهي بالنظام السياسي والاقتصادي

جواب سؤال كيف نصبح عاديين يبدو سهلا، ألسنا عاديين بـ”الفطرة”، وإن لا، ألا تكفي فقط المراقبة والتمرن والتقليد؟ العملية السابقة التي تبدو سهلة، نكتشف صعوباتها ومخاطرها الجديّة في الأعمال الفنيّة والأدبيّة، كونها تسائل جوهر هذا العادي، إن وجد هذا الجوهر، كما في حكاية فرانكشتاين الشهيرة، فالجسد المكون من مجموعة أجساد، بعث فيه “العلم” الحياة، ليُحكم عليه لاحقا، وبمجرد إدراكه لذاته بأنه وحش، لا بالمعنى الشكلي فقط، بل السياسيّ أيضا، أي يمكن قتله وتحويله إلى كائن للاستعراض، كل محاولاته ليكون “رجلا عاديا” لا تأخذ على محمل الجد، بل وتوصل إلى قناعة ذاتيّة بأنه وحش، وكأن هناك سوء فهم لغوي ورمزي بينه وبين تكوين العالم، إذ لا يكفي فقط تبنّي العاديّ، بل لا بدّ من التطابق معه حرفيا، ولا يمكن اقتباسه أو تقليده أو تبنيه من قبل أي مختلف.

وهنا تأتي خطورة فرانكشتاين كونه يهدد هذا العادي نفسه، ويكشف استحالة الصفات والخصائص التي يجب أن تتوافر في كيان واع ما ليعترف به كـ”عاديّ” شكليا وثقافيا، هذا التمييز ضد المختلف يكشف تشدد العادي، ففرانكشتاين لاحقته الجموع لقتله وحرقه،  فنموذج “العادي” والكتلة البشريّة التي تتبناه وتنتجه قد لا تبدو واضحة أو مرئيّة، لكنها شديدة العنف، وكأنها تدافع عن تقليد متوارث ومقدس ولا يجوز المساس به أو تبنيه إن لم يتطابق الفرد مع مكوناته الثقافيّة.

ذات التساؤلات حول العاديّ نراها في أفلام الخيال العلميّ كـ”ذكاء اصطناعي” لستيفين سبيلبرج، التي نتجاوز فيها التكوين الجسدي العضوي، نحو الوعي ذاته، ليُطرح السؤال التقليدي هل يمكن لذكاء اصطناعيّ أن يكون رجلا أو امرأة عاديين؟ وما هي الخصائص التي تكوّن فردا عاديا ولا يمكن محاكاتها من قبل رجل آلي مثلا؟ هل الأمر حكر على التكوين العضوي المتماسك القادم من الرحم؟

هذا التساؤل الذي تطرحه كل أشكال الروبوتات والذكاء الاصطناعي، والذي تُختبر إجابته عادة ضمن مواقف بشرية، تتجلى فيها خصال الحب، والتضحية، والولاء لدى الآلي لتحديد مدى “بشريته”، لكن، نكتشف أنه حتى لو قامت الروبوتات والنسخ السايبيرية بكل “أفعال البشر”، فستبقى أقلّ مرتبة أو “لاعاديّة”، وكأن هناك صفة علويّة تنبع مع أسطورة الكربون الذي يشكل الحياة، والذي يكسب الإنسان العاديّ تميزه عن باقي الأشكال الواعية.

ربما المشكلة في أسطورة الكربون ذاتها وشكل الجسد البشري والوعي الذي ينتجه، ذاك الوعي الذي مهما بلغ من التعقيد، نراه مقيّدا بالشكل البشريّ، الذي يرى نفسه عاديا، ومُهددا من قبل الأشكال الأخرى ذات الوعي المختلف، التي قد تنفي هذا البشريّ بكل تعقيداته، لا بصورة ديستوبيّة، بل تزيحه عن مركزية العالم، لتتحول كل أحلامه وسعادته إلى مجرد هوامش مبتذلة أمام المشكلات الجديدة التي يطرحها ذاك المتفوق أو المختلف عنه بالوعي.

17