القراءات الأحادية

هذا ما وجدنا عليه آباءنا، ليس سوى قراءة أحادية للحياة، إنها قراءة اتباعية، سلبية وحمالة للكسل، لا ترفض ما هو جديد فحسب، بل تجد كل مختلف، تجاوزا على المحرمات، محرماتها هي، لا محرمات الحياة.
منذ أن بدأ الوعي الإنساني يتشكل في سياقات فكرية وعملية، كان التناقض بين الواقع ومتغيراته، وبين قراءة هذا الواقع ومتغيراته، فالواقع يتغير، غير أن قراءة الواقع تظل أبطأ وأقل استجابة للتغيير، وأعظم تشبثا بما هو قائم. إن التغيير، نتيجة فعل، وتحدث منعطفات التغيير الكبرى حين يتوحد وعي التغيير بفعل التغيير.
إن التنوع في الواقع، والابداع معا، هو أول بشائر التغيير، ولطالما شهد الواقع تناقضا حادا بين استجابات الناس لهذا التنوع، فعلى صعيد الكتابة مثلا، حيث يكون التنوع، ينبغي أن تكون قراءة نصوص التنوع، مهما كان نوع القراءة، قانونيا أو تاريخيا أو فنيا، قراءة تذهب باتجاه البحث والكشف والتحري، لتقديم وصف على مستوى الموصوف، لكن لطالما تجمدت القراءة عند معطيات نصوص الماضي، أي عند ما ألفه المتلقي وما وجد عليه الآباء، والانصراف إلى البحث عن المختلف، ليس لتبنيه، أو لتبين خصائصه، ومعرفة العوامل الموضوعية التي كانت وراء الاختلاف، وإنما لمحاصرته، كما يحاصر الوباء، وهجائه والتحذير منه.
وإن ما ينتج عنها من أحكام لا تتجاوز التبرير، وفي أحسن حالاتها، تكون تنظيما لردود الأفعال بأقلام تتوفر على خبرات الكتابة، خبرات الاحتراف لا خبرات الإبداع، لكنها دائما تحتمي بالأخلاقي.
إن المتغيرات الإبداعية، طالما استقبلت بقراءات أحادية، والتي خسرت فعلها بعد حين، غير أنها لم تستسلم، ومثلما ارتبط المتغير الإبداعي بالمتغير التاريخي، فإن القراءات الأحادية، هي الأخرى أفادت من المتغيرات، وما أدى إليه تطور أدوات الحوار.
إن ما يثير الانتباه، هو أن القراءات الأحادية، منذ أن كانت، لا يتوقف رفضها عند الموضوع، بل تتجاوزه إلى الشكل وأدواته، ففي القراءات القانونية (الفقهية) يشار إلى العصيان والكفر، وفي القراءات القومية، يشار إلى التنكر لثوابت الأمم والعبث بتراثها، وفي القراءات الاجتماعية يشار إلى غياب الوعي، غير أنها جميعا، وكما أشرت من قبل تتوحد في ادعاء امتلاك سلطة الأخلاق، فترتدي جلبابها وتتغطى بعباءتها، وتطلق الأحكام باسمها.
في تاريخ الأدب العربي، يمكن القول، لعلَّ من بين أبرز الذين لم تدرك القراءات الأحادية ما كان لهم من اختلاف مع الموروث والسائد، هم شعراء المجتمع المديني، وبخاصة أولئك الذين عاشوا في بغداد، إبان العصر العباسي، وفي مقدمتهم أبونواس، الذي تمثل المجتمع المديني البغدادي، بكل أبعاده وعبـَّر عنه، غير أن القراءات الأحادية حاولت وضعه والنظر إلى ما عبـّر عنه من اختلاف، في إطار معياري ينتسب إلى ما قبل المجتمع المديني.
إن موقف القراءة الأحادي من شعراء المجتمع المديني مازال يتردد صداه في ما يردده رموز القراءات الأحادية، ليس في الشعر وحده، وإنما في جميع حقول الإبداع، حيث تنسب المتغيرات فيها إلى مصدر أجنبي، وتقيم على أنها الأقرب إلى التخريب والأبعد عن البناء.
لقد عرفنا مثل هذه القراءة، مع كل جديد في الحياة والفكر والإبداع، غير أن الحياة أكثر حيوية، من جمود القراءات الأحادية، حيث يستمر التغيير وتتوالى الإضافات.