كليلة ودمنة.. حين تجتمع حكمة الهند وفطنة الفرس ورشاقة لغة العرب

حين يقول لك طفلك “قصّ لي يا أبي حكاية قبل النوم”، ساعتها لا تجد غير عبدالله ابن المقفع، و”مشتقاته”، منقذا، في كل مغارب الدنيا ومشارقها. إنه الوحيد الذي جعل كل حيوانات العالم مطية لقول كل شيء. ما الذي جعل من هذا الرجل “شيطان حكايات” و”عظة لكل من لا يتعظ” غير وفرة في الخيال، وكذلك خشية من السلطان؟ لم تلتق البشرية، في تاريخها، بين دفتي كتاب، مثلما التقت عند “كليلة ودمنة”، كتاب يجمع بين الحكمة والنصيحة من جهة، والتشويق والإدهاش من جهة ثانية. اتفق الجميع على اعتبار”كليلة ودمنة” من أنفس الكتب وأرقاها عبر العصور، ذلك أنه ينطق باسمنا، نحن البشر، في أرقى حالاتنا وأزهاها، كما يخبر عن ضعفنا وجبننا في أسوء وضعياتنا وأدناها.
خبّرت عنا الحيوانات، حين عجز البشر عن “قولنا” خوفا أو ذعرا أو ما يشبه الصراحة إلا قليلا. “قالنا” اثنان من بنات آوى، كليلة ودمنة، في كتاب يشبه المعجزة، خطه فيلسوف هندي اسمه “بيدبا أمام مليكه دبشليم”، ترجمه كاتب اسمه “برزويه”.. ونقله إلى العربية واحد من دهاة اللغة والسياسة في الدولة العربية العباسية، اسمه “ابن المقفع”. “كليلة ودمنة” كتاب ملتبس، يمحو الأثر، يكاد لا يخبّر عن مؤلفه، أو مؤلفيه على وجه الدقة والالتباس، ويورّط الجميع في تأليفه. إنه قصة اثنين من بنات آوى، اسمهما “كليلة” و”دمنة”، كائنان يستعيران اسميهما من عالم النبات، ليخبران عن الإنسان من خلال عالم الحيوان.
كليلة ودمنة اسمان، جاء ذكرهما في الباب الأول من الكتاب، حيث يقول ابن المقفع “لقد كان في ما كان، مع الأسد من السباع، اثنان من بنات آوى، ويقال لأحدهما كليلة، وللآخر دمنة، وكانا من أصحاب الدّهاء في الأدب والعلم، وقد دارت بينهما نقاشات وحكايات وذلك من أجل كسب ودّ وتعاطف الملك الأسد”.
الكتاب يحوي أبوابا وفصولا كـ”الحمامة المطوقة” الذي يدعو إلى جدوى التعاون والتآزر، ويحيل إلى “إخوان الصفا” كأول جمعية تأسيسية “سرانية”، أسست لها مجموعة من الكتاب والفلاسفة في عصر التقية، وكان أبوحيان التوحيدي واحدا منهم.
ابن المقفع، رجل “لم يكن يمزح”، كان يحمل على عاتقه إرثا سياسيا ويختفي خلف كتاب ما ينفك يكبر ويتضخم، ويثير خلفه التأويلات. كتاب أثار خلفه الأقاويل، ولم يكن مجرد مترجم أي بلغة أن “ناقل الكفر ليس بكافر”
هل رأينا أشد مكرا من هذه المعادلة، وأقرب التصاقا بعوالمنا غير هذه التركيبة التي أرادها “بيدبا” فيلسوف الهند، أمام مليكه “دبشليم”، وهل شهدنا مأساة أكثر دموية مما وقع لابن المقفع، مترجم القصة، في محنته، أمام الخليفة أبي جعفر المنصور. “كليلة ودمنة” كتاب مفخخ شديد التأويل، كثير التشويق ولا تُحمد عواقبه.
كتاب للإنسانية
إنه يقول على لسان الحيوان ما لا يجرؤ البشر على قوله في كل الأعصار والأمصار.. ولطالما اختفى الناس خلف “غير الناس” من الحيوان والنبات، وغير ذلك ممن لم يراقبهم العسس.
لم يكن أمام “بيدبا” الفيلسوف الهندي، إزاء مليكه “دبشليم” غير عالم الحيوان كي يخبره عما أراد إخباره، ولم يكن أمام “برزويه” الفارسي، شيئا يلتمسه غير ما قاله “بيدبا”، ولم يكن أمام ابن المقفع، كتابا يحدّث عنه غير “كليلة ودمنة”، يخاطب فيه الملك الظالم، أبا جعفر المنصور.. وكانت المأساة.
“كليلة ودمنة” كتاب تناوبت على كتابته وصياغته، وإعادة تأليفه حضارات شرقية كثيرة، ثم أعادت هضمه وأعادت إنتاجه ثقافات غربية أخرى، لكنه ظل شامخا، ذلك أنه اختصر الإنسان في منطق حيوان.
كتاب أبدى النصيحة للعامة، كما الملوك، فهمه ودرس معناه الصغار والكبار، واستلهم منه عظام الكتاب روائعهم، ومازال مادة لا تنضب للأطفال بمختلف لغاتهم وثقافاتهم.
يختفي الإنسان خلف حيوان كي يقول ما لم يقله حيوان أو حتى نبات أو إنسان، إنها لعبة مواربة، طريقة اختفاء ومحاولة لجعل الإنسان “يبدو وكأنه إنسان”.
الفصول الأربعة
كتاب سماه مؤلفه الأول في النسخة الهندية الأصلية بـ”الفصول الأربعة”، فهل كان يقصد حقيقة، أن الإنسان فصول أربعة، ودائرة يختصرها عالما الحيوان والنبات.
كتاب “كليلة ودمنة” هو أدب الجلوس وإسداء الحكمة للملوك والسلاطين، تحدثا ومسامرة ونصيحة، كذلك أنه تنبيه للعامة والمحكومين.
المترجمون وأصحاب التأويل والتهويل أضافوا للكتاب رهبة جعلته فخا للحكام والعامة على حد السواء، استلهم منه كتاب آخرون تحذيراتهم واختفوا خلفه، وما زالوا يختفون.
غابة يحكمها أسد، يدون أحداثها ماكران اثنان من بنات آوى (كليلة ودمنة) ويتناوب الحكمة عليها شخوص مهزومون، ومنتصرون، وفاشلون من الحيوانات التي أصبغها البشر لبوسهم.
إمبراطورية من الحكمة المهدورة والنصائح المسفوحة، يقولها فيلسوف هندي لمليكه، ثم ما يلبث أن يلتقطها ماكر فارسي، لتسقط في صفحات رجل عربي اللسان كارثي البيان، وسليط المعنى واللسان، غريب العقيدة والبرهان، أمام سفاح عباسي اسمه أبوجعفر المنصور.
الحديث عن كتاب “كليلة ودمنة” وسير حيواناته التي تشبه البشر- أو يشبها البشر- ليست من مشمولات كتابة نقدية واعية، ذلك أن الصغير والكبير يدركها ويعرف مغزاها، لكن الذي لا يعرفها هو الذي لا يدرك معنى أن يتحدث حيوان عن إنسان، ويخبر إنسان عن حيوان بلسان حيوان.
يفخر العرب قبل غيرهم، في أدب النصيحة، من خلال عبرهم، ومن خلال، كتابات غيرهم أيضا من الأدب المنطوق على لسان حيوانات.. إنها المواربة في أرقى أشكالها.
كلما قلت لأحدهم، ولو كان ذلك على سبيل الطرفة، قال حيوان لآخر، وقبل أن تكمل جملتك، أجابك بالتأكيد،”دعنا من كليلة ودمنة”.
ما الذي جعل “كليلة ودمنة” بوصلة العرب لمعرفة أحوال العرب؟ ما الذي جعل هذا الكتاب كتابا في حياتنا اليومية غير التشبه بشخوصه من الحيوانات، حتى تلك التي لم نقرأها وإنما قُرئت على مسامعنا؟
الثيران الهائجة والثعالب المحتالة، والسلاحف الكاذبة، والرواة المزيفون من بنات آوى، لم تكن إلا نحن وقد أزيحت عنهم الأقنعة، فانظر يا ابن المقفع كم تشبهنا ونشبهك.
لم يوجد في العالم كاتب لم يتأثر بابن المقفع، ولا أغنية أو قصة أطفال أبطالها الحيوانات، لم تخرج من عباءة ابن المقفع. يبدو أن الإنسان يسعى دائما إلى إخفاء جبروته، ونقد شراسة غيره خلف عالم الحيوان الذي لن يحتج بالتأكيد، على هذه المقاربة الظالمة.
شغف الإنسان بإنطاق ما لا ينطق من الكائنات الأخرى، قديم قدم التخفي والتشكي والتشفي، وجاءت “كليلة ودمنة” لتتوج هذا التوق إلى تقصي الحكمة من خلال سلوك الحيوان الذي لن يطالب الحيوان يوما بحقوق التأليف، ولن يقاضيه عما نسب له زورا أو تدليسا.
كأن “كليلة ودمنة” كتاب يجب أن يوجد، حتى لو لم يدونه الفيلسوف الهندي بيدبا لمليكه دبشليم في مسامرات تنزع نحو استعراض الحكمة وإبداء النصيحة، والتسلية في أحايين كثيرة.
أوجد عبدالله ابن المقفع في كتاب “كليلة ودمنة” عالما موازيا لكل سلوكيات بني البشر، فلا تكاد تشخص موقفا إلا وتمثل لديك من خلال قصة تحبس الأنفاس، كيف لا وقد سماه مؤلفه الأصلي في نسخته الهندية بـ”الفصول الأربعة”، لكن ابن المقفع قد ولج “فصلا خامسا” في علاقته بالسلطان، الأمر الذي أودى بحياته في زمن الخليفة المنصور.
“كليلة ودمنة” مادة دسمة لشتى ضروب المواد الفيلمية والقصص المصورة للأطفال والكبار على حد سواء، وارتدت فيها شخوص ابن المقفع شتى المواقف الدرامية في مزاوجة مغرية بين ابن المقفع وعتاة كتاب الدراما الإنسانية.
تُرجم كتاب “كليلة ودمنة” إلى مختلف لغات العالم، انبهر به الشرق والغرب، وحاكاه الشاعر ألفونس دي لامارتين في فرنسا، كما تناوله أحمد شوقي في الأدب العربي الكلاسيكي، شعرا عذبا رقراقا في صيغة النقد، والنصيحة السياسية.
دفع ابن المقفع الثمن غاليا ومبكرا، حتى تستمتع الأجيال التي جاءت بعده، بأهمية ووجاهة ما ذهب إليه. يقول قائل: ما أصغر ذلك الفيلم الكرتوني الذي يحمل عنوان “الملك الأسد” وأنتجته شركة والت ديزناي، عبر “هاملت شكسبير” في صيغة تعدت على ابن المقفع، ولم تعطه حقه وهو في تلك البئر السحيقة التي آلت نهايته إليها.
ما أكبر عبدالله بن المقفع، وهو يترجم، ويعي ما يترجم، أكبر ملحمة قالها الإنسان على لسان الحيوان، قال عنها الأديب المصري الكبير طه حسين إنها “رمز لتعاون إنساني في خدمة الفكر والثقافة والأدب، أبرزته أمم ثلاث شرقية، كنموذج يمكن أن يصل إليه التعاون الإنساني، في مجالات العلم والفكر والفن”.
“كليلة ودمنة” ليس مجرد كتاب في أدب النصيحة، ولا مجرد تشويق تحيل فيه قصة إلى قصة أخرى لمجرد القول إننا أمة لا تتقن إلا الاستماع والرواية، لذلك يبقى البشر حيوانات إلى أن ينطقوا.
الكتابة تبقى كتابة، في كليلة ودمنة، الرواية التي أحبها الجميع حين اختفى خلفها الجميع. هي ليست مجرد قصة اسمها “كليلة ودمنة”، ولا كناية عن حكاية.
تخيلوا قيمتها لو أن إنسانا قصها على لسان إنسان، لو أنها قصة عن الحيوان وما يعانيه من الحيوان في عالم الحيوان.
“كليلة ودمنة” ليس مجرد كتاب نصح يسدده عبدالله بن المقفع للملوك، ولا مجرد ترجمة في عصر مد الجسور بين الثقافات، بل هو رسالة، بدليل ما حل بصاحب الرسالة.
سُلب عبدالله بن المقفع، صاحب كتابي “الأدب الكبير” و”الأدب الصغير” حقه، واغتيل مرات، وهو الذي قالنا وخبّر عنا في روايات وقصص انتهت به إلى مأساة إنسانية ما زالت تتذكرها بئر النسيان.
من هو ابن المقفع
وأقر النقاد والدارسون بأن ابن المقفع، لم يكتف في عمله كمترجم على نقل النص كما هو، بل أضاف وعدّل النصوص بما يتناسب مع أفكاره أو السمات الاجتماعية والثقافية والدينية التي تميز بها مجتمعه.
هذا إذا علمنا بأن الكتاب قد ترجم من الهندية إلى الفارسية في عهد الحاكم المجوسي كسرى أنوشروان، وخضع بعد ذلك إلى سلسلة حلقات من التعديل بما يتلاءم مع البيئة الثقافية التي عاش فيها ابن المقفع، ومع ذلك فقد ناله ما ناله من التهجم والجحود وصل حد التكفير، والاتهام بالزندقة والخروج عن دين الإسلام، تهمة ذلك العصر الذي تُلبس فيه المعارضة السياسية أثوابا دينية.
ينسب كتاب ابن المقفع إلى أدب التقية بامتياز، ذلك أن مؤلفه كان ينتمي إلى جماعة “إخوان الصفا”، فيمكننا إضافة العديد من الأفكار الخارجة عن مألوف ذلك العصر والتي كان قد آمن بها أيضا أسوة بإخوانه في تلك الجماعة الفلسفية. ورد على لسان ابن المقفع في كتاب “كليلة ودمنة” ما قد يشير إلى علاقته بجماعة إخوان الصفا، حيث يقول في باب الحمامة المطوقة “فالإنسان الذي قد أُعطيَ العقل والفهم، وأُلهمَ الخير والشر ومُنح التمييز والمعرفة، أولى وأحرص بالتواصل والتعاضد، فهذا مثل إخوان الصفا وائتلافهم في الصحبة”.
كان اسمه روزبه قبل أن يسلم. ولد في حور في فارس لُقب أبوه بالمقفع لتشنج أصابع يديه على إثر تنكيل الحجاج به بتهمة مد يده إلى أموال الدولة.
درس الفارسية وتعلّم العربية في كتب الأدباء واشترك في سوق المربد. رافق الأزمات السياسية في زمن الدولتين الأموية والعباسية. سئل ابن المقفّع “من أدّبك”؟ فقال “نفسي. إذا رأيت من غيري حسنا آتيه وإن رأيت قبيحا أبَيْته”.
كان فاضلا ونبيلا وكريما ووفيا. ونستطيع أن نعرف عنه صدقه من خلال كتاباته. من القصص التي تدلّ على صدقه ووفائه، أنه ولما قُتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية اختفى عبدالحميد الكاتب فعُثِرَ عليه عند ابن المقفّع وكان صديقه. وعندما سئِل الرجلان: أيُّكما عبدالحميد؟ قال كل واحد منهما “أنا” خوفا على صاحبه.
في ظل الدولة العباسية اتصل ابن المقفّع بعبدالله بن علي عم السفاح والمنصور واستمر يعمل في خدمته حتى قتله سفيان بن معاوية والي البصرة من قبل المنصور. والأرجح أن سبب مقتله يعود إلى المبالغة في صيغة كتاب الأمان الذي وضعه ابن المقفع ليوقّع عليه أبوجعفر المنصور أمانا لعبدالله بن عليّ عم المنصور.
وكان ابن المقفع قد أفرط في الاحتياط عند كتابة هذا الميثاق بين الرجلين- عبدالله بن علي والمنصور- حتى لا يجد المنصور منفذا للإخلال بعهده. ومما جاء في كتاب الأمان: إذا أخلّ المنصور بشرط من شروط الأمان كانت “نساؤه طوالق وكان الناس في حلّ من بيعته”، مما أغاظ المنصور فقال “أما من أحد يكفينيه”؟ وكان سفيان بن معاوية يبيّت لابن المقفع الحقد فطلبه ولما حضر قيّده وأخذ يقطعه عضوا فعضوا ويرمي به في التنور.
قتل ابن المقفّع وهو في مقتبل العمر ولم يتجاوز السادسة والثلاثين عند موته.