الجزائر: فرصة التغيير الراديكالي في خطر

كشف الحراك الشعبي الجزائري عن عدد من الظواهر السلبية التي سأتناولها هنا واحدة بعد أخرى علما وأنه نُظر إلى هذا الحراك، منذ بداياته الأولى في 22 فبراير الماضي، من طرف أغلبية المواطنين والمواطنات عبر الجزائر العميقة كفرصة ذهبية لإحداث التغيير الراديكالي ليس فقط في البنية السياسية الجزائرية الخارجية، وإنما في مجموع مكونات النسق الكلي الذي حكم البلاد مثل طرائق ممارسة الحكم، والفاعلين السياسيين الفاسدين، والمؤسسات والمعايير، والقيم والعلاقات، وحيث تتحقق وتتجمع خيوط السلطة السياسية.
ولكن يبدو الآن واضحا أن هذا الحراك أريدَ له أن يُختزلَ قبل الأوان في إجراءات محدودة وهي التخلص من الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة ومن عدد من الشخصيات السياسية المحسوبة على مرحلته التي حكم فيها لمدة عشرين عاما.
الظاهرة الأولى هي أن الجماهير الغفيرة التي خرجت الثلاثاء الماضي – فور الإعلان عن تنصيب رئيس مجلس الأمة عبدالقادر بن صالح رئيسا مؤقتا للجزائر لمدة 90 يوما- إلى الشوارع لتعبّر عن رفضها له، أدركت أن الحواجز التي ما فتئت تعوق الجزائر منذ الاستقلال إلى اليوم عن إنجاز نواة دولة المجتمع الحديثة لا تزال قائمة ومن الصعب أن تتزحزح بواسطة المظاهرات الناعمة التي رفعت فيها شعارات إسقاط العهدة الخامسة لبوتفليقة، ثم ألحقتها برفع سقف شبكة من المطالب الأخرى وفي صلبها كنس كل بنيات النظام السائد منذ الاستقلال وطرد الشخصيات التي تورطت في الفساد الإداري والأخلاقي والاقتصادي والثقافي.
وفي الواقع فقد أبرز بعض المحللين السياسيين الاستراتيجيين العارفين بحقائق المجتمع الجزائري وذهنية الشخصية الجمعية الجزائرية منذ انطلاقة الحراك الشعبي أن طموحات المواطنين التي تهدف إلى التفكيك الكلي لبنية النظام الجزائري سوف تصطدم بعراقيل شتىَ منها عقبة الجيش الذي تعوّد على إدارة الشأن الجزائري مرة من خلف هذا القناع أو ذاك، ومرات بواسطة التدخل العلني المباشر والقوي.
في هذا السياق يلاحظ أن ما حدث في الأيام القليلة الماضية، كتعيين الحكومة من طرف بوتفليقة وجماعته، ثم تتويج هذه الحكومة بترسيمها في الجريدة الرسمية مباشرة بعد تنحية بوتفليقة على نحو مرفوض من طرف الملايين من المتظاهرين، ثم تكليف رئيس مجلس الأمة عبدالقادر بن صالح برئاسة المرحلة الانتقالية رغم معارضة الحراك الشعبي أيضا، يدخل تماما في صلب تجاوز الإرادة الشعبية.
وهكذا ينبغي القول إن كل التحليلات الوصفية التي زعمت حتى الآن بأن الجهات التابعة للرئيس السابق بوتفليقة هي التي فرضت بن صالح رئيسا مؤقتا على الجيش والشعب معا هي مجرد تأويلات ساذجة جراء تهربها من مواجهة الواقع المر وتجنب التصريح بالحقيقة التي مفادها أن مؤسسة الجيش والأجهزة الأمن التابعة لها هي التي قامت بهذا الفعل من أجل إعادة إنتاج النظام الحاكم في الجزائر.
علما وأن الكثير من الشخصيات في الجيش هي أيضا جزء عضوي من النظام الحاكم وأنها تحالفت مع بوتفليقة على مدى سنوات طويلة ولعبت دورا محوريا في فرض تعديل الدستور حسب مقاسه، وتشجيع وتبرير ترشحه للعهدة الثالثة والرابعة والخامسة التي أجهضها الحراك الشعبي.
هناك قضية أخرى مهمّة برزت على السطح خلال الحراك الشعبي الجزائري وتتمثل في السباق المحموم بين مكونات الفسيفساء السياسي إلى الانفراد بالحكم بكل الوسائل، دون إحداث قطيعة راديكالية مع ركائز النظام الحاكم، وفي صدارتها المؤسسات الفاشلة والخيارات الاقتصادية الاستغلالية التي عمّقت الهوة بين الشرائح الفقيرة وبين الأثرياء الجدد والقدامى بمن في ذلك الأثرياء التابعين للنظام الحاكم الذين تربطهم شراكات حقيقية مع كبار الضباط في الجيش وجهاز الأمن ومحتكري الشرعية الثورية.
لا شك أن الراصد لتحولات الأزمة الجزائرية يلاحظ بداية تصدع أحزاب الموالاة وأحزاب المعارضة معا، جراء عاصفة الحراك الشعبي، وهنا يستغرب المرء مثلا دعوات القيادي صادق شهاب وجماعته في حزب التجمع الوطني الديمقراطي إلى رحيل أمينه العام راهنا والوزير الأول السابق أحمد أويحيى، علما وأن هذه الجماعة لعبت دورا مفصليا في قيادة هذا الحزب نفسه إلى الهاوية بسبب تحويله إلى بوق لعبدالعزيز بوتفليقة وللنظام الذي حكم باسمه 20 سنة.
كما أنه لا يمكن أن تنطلي على الشعب الجزائري انتهازية مجموعة من أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني الذين كانوا منذ زمان طويل يطبّلون للنظام الحاكم ككل لبوتفليقة وجماعته ونجدهم الآن يدعون إلى تنظيف هذا الحزب من أمينه العام الحالي معاذ بوشارب وقياداته الأخرى، في الوقت الذي لا يختلف هؤلاء عن بعضهم البعض.
ثم ما معنى أن تحاول اليوم كل أحزاب الموالاة الأخرى أن تعيد إنتاج نفسها، علما وأن الحراك الشعبي يطلب منها بقوة وإصرار أن تحل نفسها طالما أنها جزء عضوي من العصابة الحاكمة التي عاثت في البلاد فسادا؟
وفي الحقيقة فإن فئات الشعب ضمن الحراك الشعبي تدرك أنه لا يمكن استثناء ما يسمّى بأحزاب المعارضة التي تتحكم فيها الدكتاتورية، كما هو الوضع في حزب العمال الذي لا تزال أمينته العامة، لويزة حنون، تجلس على ظهره منذ أكثر من 20 سنة، وكذلك حزب طلائع الأحرار الذي يتحكم في رقبته علي بن فليس وهو أحد رجالات النظام الجزائري طوال وجوده في الحكم كوزير ثم كرئيس وزراء وكأمين عام لحزب جبهة التحرير الوطني وكمدير للحملة الانتخابية لبوتفليقة.
هناك أيضا ظاهرة أخرى كشف عنها الحراك الشعبي وتتمثل في بروز عدد من الانتهازيين الذين حاولوا ركوب الموجة، على حساب الشخصيات الوطنية النظيفة التي صارعت وتصارع النظام الجزائري وبوتفليقة وشلته على مدى سنوات وسنوات، وذلك بهدف الترشح للرئاسيات القادمة، أو من أجل الاستيلاء على المناصب في الحكومة ومختلف المؤسسات الكبرى في الدولة.