شتاء إلسا الهادئ

يزخر عالم التشكيل العربي باللوحات التي تجد أصداءها في نفس مُشاهديها، لاسيما إذا توفر لديهم إضافة إلى الرصيد الفني، رصيد نفسي غني ما يؤهلهم لالتقاط ذبذبات راشحة من أعمال شحنها الفنان بطاقته التعبيرية الخاصة وزرعها في تلافيف لوحاته الأكثر بساطة ووضوحا من الناحية الخارجية.
ولعل العديد من لوحات الفنان التشكيلي المصري سامي أبوالعزم تنتمي إلى هذه الفصيلة من اللوحات، خاصة تلك التي قدمها خلال معرض فني له عنونه بـ“شتاء هادئ”.
لفتت نظري بشكل خاص لوحة واحدة ربما تكون مفتاحا لباقي اللوحات التي قدمها الفنان خلال المعرض وللعديد مما قدمه في سياق آخر، أما ما يجعلها مفتاحا هو أنها أتاحت بكل ما تزخر من رمزية مُبطنة وظفها الفنان شعوريا أو لا شعوريا في مشهد “عادي” أن تأخذ الناظر إليها إلى عوالمه الداخلية/المنسية.
اللوحة لها طابع الرطوبة الباردة وتجسد فتاة تجلس وحيدة على الرمال وأمامها مدّ من الأشجار القصيرة الخضراء التي ينبثق من خلفها جزء من قارب ارتفعت مقدمته لتتخطى خط الأشجار الغامضة لناحية تصنيفها وتحديد ماهية بيئتها الطبيعية، تجلس الفتاة مُديرة لنا ظهرها ومُلتفة بتقوقع بغطاء خشن وخام غلب عليه لون أخضر عفنيّ، ويظهر من أحد جوانب الغطاء جزء صغير من ثوبها الأزرق السماوي الفاتح.
ولدى رؤيتي لها أكثر من مرة تساءلت عما يجعلها مميزة جدا في نظري؟ وهي كغيرها من لوحات الفنان تمتلك كمية وفيرة من هذا الهدوء الحكيم، هدوء يغلف بانفعال شديد ونابع من نسوة تمرسن على انتظار له طابع وجودي.
تكاد هذه اللوحة أن تكون صوتا داخليا رصف جسوره نحو لوحة أخرى هي لفتاة ثانية جالسة في مشهد طبيعي مُتقشف، إلاّ من شجيرة صبار مزدانة بأزهارها البرتقالية الصاخبة، ويلفت في هذه اللوحة أن الفنان عكسَ تركيب المشهد ليبدو الأزرق “المُمطر” الهيئة مُتراجعا إلى الأفق على حساب الخضرة التي احتلت الخط الأول من اللوحة.
وفي العودة إلى اللوحة “الأم”، أي إلى ذات الرداء الأخضر الرطب رطوبة الأعشاب والبحيرات الساكنة، أعود في ما أحب أن أسميه “لحظة” تجلّ تذكرت فيها إحدى أجمل القصص الخرافية للأديب كريستيان هانس أندرسن وتحمل عنوان “البجعات البرية”.
تدور القصة وباختصار شديد حول فتاة اسمها “إلسا” تزوج والدها الملك من امرأة غير والدتها، ألقت الملكة الجديدة اللعنة على إخوان إلسا الإحدى عشر عبر تحويلهم إلى بجعات برية، كما نفت إلسا إلى قرية نائية إلى جانب مقبرة وبحيرة، بمساعدة جنية صالحة كان على إلسا أن تلزم الصمت المُطلق طيلة فترة حياكتها لقمصان من القرّاص النامي تحت الشمس على المقابر المجاورة لبحيرة.
تشبه “بطلة” لوحة الفنان أبوالعزم إلسا بقوة بارزة، وذلك ليس فقط من الناحية الخارجية كظاهرة عابرة لا بد منها لتحقيق العمل الفني، بل في كون الظاهر المشغول مع أبوالعزم بالأسلوب الواقعي والمصقول بالسحرية مع أندرسن مُحتضنا للمعاني والأبعاد الإنسانية الخالصة.
وفي لوحة الفنان نحن أمام فتاة ذات وجه غامض في سحر مشهد يخترقه قارب تعالى على الشجيرات/الأعشاب البرية لكي يكون بالنسبة لنظرتها الموجهة إليه خلاصا محتوما بعد جهد أليم تولت فيه بطريقتها الخاصة حياكة رداء من القرّاص لتلتحف به غير آبهة بوخزاته الباهتة بالمقارنة مع مفعولها السحري/الخلاصي.
في حين يستخدم الكاتب القالب السحري ليكشف عن أعمق الحالات النفسية، يوظف الفنان القالب الواقعي في تنفيذ العمل الفني لكي يعبر عن سحرية المشاعر الإنسانية والصراعات الداخلية.
أمام صمت “فتاة” سامي أبوالعزم، وحزنها ووحدتها، وترقّبها والخضرة العفنيّة الخام التي تلتف بها، ولحظة انبلاج الصباح الذي تتأمل فيه والذي يؤذن في رواية أندرسن بنهاية كل ليلة وبعودة إخوان إلسا إلى بجعات برية، كلها علامات شبه قوية كفيلة بأن تجعل فتاة الفنان سامي أبوالعزم تحمل اسم ولقب “إلسا، فتاة الشتاء الهادئ”.