الغيمة البيضاء

لكل منّا قصة مدفونة في ذاته لا يُقضها إلاّ قصيدة كقصيدة رينيه شار.
الجمعة 2019/03/22
الربيع يطل علينا

يكاد هذا المقال ينبثق مباشرة من المقاليْن السابقيْن اللذين كتبتهما مؤخرا لدى شعوري باقتراب الربيع يسري في أوصالي وكأنني نبتة من نبتات الحقول المتوحشة، لا يمر ربيع واحد كهذا الربيع إلاّ وأزهرت براعمه النائمة في نفسي، براعم سقيتها بحب وتأملت نموها حتى السطح.

يوم الأحد الماضي ذهبت في رحلة إلى الثلج كما جرى على تسميتي لكل رحلة ذهبت فيها إلى إحدى المناطق الجبلية المكسوة بأبيضه حتى انمحى اسم المنطقة وحضر اسم واحد لها، وهو “الثلج”.

كان الطقس جميلا والجو هادئ ومسالم جدا إلى حد خلا ذهني من كل أفكار مرتبطة بمجريات الحياة وقلق الأعمال، وجدتني أتأمل ببقعة واسعة لا تنتهي من الثلج وقد حلت عليها أشعة الشمس الساطعة.

لم يكن المشهد يشبه أي لوحة تشكيلية رأيتها بل كان واقعيا بحتا، ورغم ذلك كان بديعا إلى أقصى حد، وكما يحصل في كل فترة تأمل سرح ذهني إلى ذكرى من ذكريات الطفولة المتأخرة.

ذهب إلى صديقة من مدرستي اسمها رولا ثلجة، استمرت صداقتنا لثلاث سنوات، كانت فتاة هادئة لا تتكلم كثيرا وتبتسم كثيرا، وكنت اعتدت ممازحتها بشأن اسم كنيتها التي تشبه شخصيتها الهادئة والمُسالمة، وكنت أناديها بـ”ثلوجة” فتضحك ملء قلبها، وكانت تجد اسمي خلافا للآخرين من زملائنا جميلا جمال الشجرة الربيعية. كنا نتسلى في تخيلات “غرس” تلك الشجرة في مشاهد الثلج الزائل ورقرقة الماء الذي يذوب ببطء، لاسيما عندما كنّا نذهب مع أهلنا خلال العطلات الشتوية القليلة إلى “الثلج” عندما كانت تسمح لنا ظروف البلد بذلك.

ثم غادرت رولا البلاد هي وأهلها نهائيا بعد اشتداد عنف الحرب اللبنانية، قبل يوم من رحيلها اتفقنا أنا وهي أن تلبس كنزتها الصوف البيضاء التي صنعتها لها خالتها من صوف “الموهير” وأن ألبس أنا كنزتي الصفراء التي اشتغلتها لي خالتي أمل، خلال عام كامل عندما كنت لا أزال في الصف المدرسي الأول لألبسها في سنوات لاحقة، ولكن لهذه الكنزة قصة أخرى لست في صددها الآن.

يومها اقتطعنا “ندفا” من كنزتينا وتبادلناهما لكي نحتفظ بهما كذكرى، بكينا كثيرا يومها، كما بكيت كثيرا حين أضعت قطعة الصوف بعد عدة سنوات، كما أضعت رولا التي لم يكن لنا صورة فوتوغرافية واحدة تؤرخ صداقتنا، فالزمن لم يكن زمن الصور بل زمن العيش العميق، وعبثا حاولت العثور عليها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حين جاءت أيامه.

أخذتني هذه الذكرى الحزينة والفرحة في آن واحد إلى قصيدة للشاعر الفرنسي رينيه شار يختصر فيها بكثافة حادة وبصرية معنى الصداقة، تقول القصيدة المُقتضبة جدا “صداقتنا هي الغيمة البيضاء المُفضلة للشمس”، كذلك كانت صداقتي مع رولا، بإشراقها وبياضها، واضحة وصريحة ومُصرح عنها على الملأ، وعميقة كما كل العلاقات التي تُعقد أواصرها في بدايات حياتنا.

كانت صداقتنا، التي لا زالت سارية المفعول في شكل حياة أخرى لا أفقه قوانينها، كمثل هذه الشمس التي صبغت بصمت ووضوح الأرض المكسوة تماما بالثلج والغيوم البيضاء المُعلقة في سماء تستعد لاستقبال الربيع، وهكذا اتضح بشكل مفاجىء تعبير سمعته مرارا ولم أعطه أي أهمية، وهو أن “في الثلج تتكسر الأبعاد”.

قد تكون هذه القصيدة، كما معظم قصائد رينيه شار وهو المُلقب “بالشاعر الينيغماتيك”، مثل الكثير من القصائد السهلة الممتنعة التي تبدو للوهلة الأولى أنها شديدة البساطة، في حين أنها لا تحتاج منا إلاّ فرصة انعتاق للحظة واحدة مما اعتدنا على اعتباره “عاديا” لينفتح أمامنا حقل البصر فنعبر جسوره الغامضة الممتدة إلينا دون حذر فنتصل عبرها بأعماق نفوسنا وخفاياها.

لكل منّا قصة مدفونة في ذاته لا يُقضها إلاّ قصيدة كقصيدة رينيه شار.

17