مكتبة مكنزي البغدادية

ستبقى هذه المكتبة حاضرة في تاريخ بغداد الثقافي والاجتماعي، كما سيبقى غيابها يمثل حالة وجع تضاف إلى أوجاع المثقفين العراقيين.
السبت 2019/03/09
تراث ثقافي في مهب الريح

في مقالة بعنوان “التراث الثقافي المادي لحضارة العراق بعد جرائم النهب والتدمير” بقلم الناقد والروائي المصري عبدالمقصود محمد، نشرت في مجلة الموروث التي تصدر عن معهد الشارقة للتراث، يستعرض فيها الخراب الذي عصف بمعظم المؤسسات الثقافية والمواقع الآثارية في العراق وما تعرضت له من إهمال وتخريب ونهب، في ظل الاحتلال الأميركي – الإيراني والحكومات التي توالت في العراق بعد سنة 2003، وورد في المقالة المذكورة ما آل إليه شارع الرشيد، أهم شوارع بغداد وأكثرها عراقة وحيوية، حيث فقد أهم معالمه الجمالية والحضارية، وأدوارها الوظيفية، ومنها كما ورد في المقالة مكتبة مكنزي.

إن هذه الإشارة هي التي دفعت بي إلى هذه الوقفة عند مكتبة مكنزي، لأن كثيرين ممن زاروا بغداد لم يتعرفوا عليها، بل إن الأجيال الجديدة من البغداديين، بمن فيهم الكتاب والأدباء والصحافيون والأكاديميون، لم يدركوا أيام حضورها الثقافي، حين كانت توفر من الكتب والدوريات الأجنبية وبخاصة الإنكليزية، والأدوات والأجهزة العلمية، ما لا توفره المكتبات الأخرى، لذا كان روادها سواء من العراقيين أم من الأجانب المقيمين في العراق أو العاملين فيه، يختلفون في توجهاتهم الثقافية، وما يحتاجون إليه من كتب ودوريات وأجهزة علمية، عن رواد مكتبات سوق السراي وشارع المتنبي، ومن ثم شارع السعدون.

وخلال بعض أعوام إقامتي في بغداد ومنها أعوام مرحلة الدراسة الجامعية، كنت أمرّ بها باستمرار وأشاهد الذين يترددون عليها من الجنسين.

لقد تأسست هذه المكتبة في بدايات العقود الأولى من القرن العشرين واستمر حضورها الثقافي حتى أواسط  تسعينات القرن المذكور، إذ كاد نشاطها يتوقف بفعل ظروف الحصار المفروض على العراق وتراجع الوضع الاقتصادي وضعف إدارتها، غير أنها لم تغلق أبوابها نهائيًّا، على أمل أن تتحسن الظروف لتعود إلى نشاطها، لكن الاحتلال الأميركي – الإيراني، وما نتج عنه من دمار وما عرفت فيه بغداد من تخريب، أنهى كل أمل بعودتها، فتحولت أخيرا إلى مخزن بائس للبضائع.

وقد ظهرت كتابات كثيرة، تذكِّر بها وبتاريخها ودورها الثقافي وتدعو إلى عودتها، لكن من يقرأ هذه الكتابات، ومن يستجيب لما تدعو إليه؟! وقبل ذلك وردت في مذكرات وكتابات عدد من الرموز الثقافية، وأذكر هنا على سبيل المثال ما كتبه الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا في كتابه” شارع الأميرات”، ومن الطبيعي أن مثقفا مثل جبرا الذي كانت الترجمة من بين نشاطاته الثقافية، أن يكون على علاقة وثيقة بمكتبة توفر له ما يحتاجه من كتب ودوريات باللغة الإنكليزية.

أما اسمها فقد اقترن باسم مؤسسها الأول “كينيث مكنزي”، وهو مواطن اسكتلندي، أحب بغداد وتوفي فيها في العام 1928، ويقول الباحث عبدالجبار العتابي “إن بغداد التي تعرفه جيدًا وربما عدته واحدا من أبنائها، واعترافا بفضله، شيعت جنازته بحضور عدد كبير من العراقيين والبريطانيين، ودفن في المقبرة البريطانية في الباب الشرقي”، وورث إدارة المكتبة “دونالد مكنزي” حتى العام 1946، حيث أدارها بعد ذلك أحد العراقيين واسمه كريم، غير أنه اشتهر باسم “كريم مكنزي” وكان الأكثر نشاطاً والأوسع علاقات مع الكتاب والباحثين والأكاديميين والطلبة الجامعيين. ويذكر بعض الذين كتبوا عن مكتبة مكنزي أسماء آخرين توالوا على إدارتها إلى حين إغلاقها، وستبقى هذه المكتبة حاضرة في تاريخ بغداد الثقافي والاجتماعي، كما سيبقى غيابها يمثل حالة وجع تضاف إلى أوجاع المثقفين العراقيين في ظل كل هذا الخراب والتخريب.

14