زمن الميموزا

يصدف في كل سنة وفي مثل هذا الوقت، أي قبل حلول فصل الربيع، أن يرسل إليّ أحد الأصدقاء الفيسبوكيين صورة فوتوغرافية التقطها لإنبلاج أزهار الميموزا على أغصان الأشجار في مدينة إسطنبول.
أحيانا تكون الصورة لغصن مُزهر اقتطعه منها ووضعه في إناء على طاولة في منزله الأنيق والذي ينم عن إنسان فنان بطبعه وفي انشغالاته اليومية، وأحيانا تصل الصورة وهي لأزهارها التي لا زالت تشتعل على الأشجار المجاورة إلى منزله أو إلى مكان عمله، لا أدري تماما.. وفي كل مرة يرسلها إلي أسعد بها وكأنها أول مرة، كما يصدف أيضا أن يكون اليوم الذي أرسلها فيه يوما ماطرا، ماطرا كهذا اليوم في بيروت.
قد يرى البعض في كلامي نوعا من النرجسية، وربما في هذا شيء من الحقيقة، ولكن في الجانب الأكبر من كلماتي يقع تأمل كبير في الوجود أكثر من أي شيء آخر.
الاسم الذي حملته منذ ولادتي شكل لي في طفولتي وسنين مراهقتي وحتى في أولى سنين دراستي الجامعية نوعا من الإزعاج، أصحابي في المدرسة كانوا يستهزئون بالاسم ويحورونه إلى مسميات هزلية وخلاّقة، من قبيل “موزاية” و”زاموزتو الزميرة”، ولاحقا في أول سنة جامعية لي “صفراء الموز” في مقاربة لاسم “زرقاء اليمامة”.
وخلال فصل “تذوق الأدب العربي” كان لتلك التسميات تأثير غير مُحبب في نفسي، على الرغم من احتفال والدتي كل شهر أبريل (شهر مولدي) في إحضارها أغصان هائلة الحجم والإيراد منها إلى البيت الذي كان يكتسي صفرة مُشرقة طوال الشهر الرابع.
أذكر أن رائحة معظم الغرف كانت تعبق بتلك الرائحة الخاصة جدا، والتي هي ليست بعطر زهرة، بل عطر الأرض بكل ما تحمل من أزهار ونباتات متوحشة تنمو من تلقاء ذاتها في الطبيعة، وصرت مع مرور الوقت أشعر بالرابط القوي الذي يضمني إلى هذه الشجرة وإلى أزهارها.
مرت الأيام وتعددت التجارب الشخصية ومنها تجربة عاطفية، أرسل إلي خلالها الشخص الآخر من فرنسا غصنا صغيرا منها بواسطة بريد مُتخصص، وأصبحت أزهار الميموزا، وأكاد أقول دون توان تشبهني قلبا وقالبا، وصرت أستمتع بالبحث عن اللوحات التشكيلية التي تظهر فيها هذه الشجرة بقالب رمزي، سريالي أو واقعي بحت، ولعل أجمل لوحتين عثرت عليهما حتى الآن هما للفنانين وليام أدولوف بوغيرو وبيار بونارد.
الأولى لأنها تجسد فتاة تنظر بعيدا عن الرسام والمُتلقي بابتسامة لا هي فرحا ولا حزنا، بل مزيج رائع من الاثنين، ويكاد هذا الغصن يطير من بين يديها التي تكاد أصابعها تحمله. أما اللوحة الثانية وهي الأحب لديّ وخاصة في السنوات الأخيرة، فهي تمثل الميموزا ببقعة لونية صفراء متوهجة تنتشر كحضور رمزي للحياة لا تفاصيل مُحددة له، وتطل هذه الشجرة “التجريدية” المتوحشة على الفنان من خلال نافذة ملونة لم تستطع أن تخفف من توحش صفرتها، ويطل عليها الفنان مُستسلما لتوهجها الذي يتناقض مع ثباتها وكأنها مُعلقة في الفراغ.. فراغ مشحون بها باستسلام مُحبب.
ها هي اليوم تبدأ بالتفتح في شوارع بيروت وخارجها لتذكرني بها وبي، لا أدري إن كان يناسب أزهار الميموزا أكثر من يوم ماطر تتوقد فيه مآقي الأرض وتشتعل فيه زقزقة العصافير غير آبهة إلاّ برائحة الأرض وهي تضمر إشراقا يعصف بها عصفا باطنيا.
شكرا لوالدتي التي لم تختر لي إلاّ اسما يشبهني حتى الصميم، وشكرا للصديق الفيسبوكي الذي يواظب على إرسالها لي كل سنة في يوم ماطر كهذا اليوم.. رعد وشمس، رفق وعناد، انكفاء وإشراق وعمر يحتسب بالأيام.