لا تطعم الببغاء

نشرت إحدى الصحف العربية خبرا عن طيور الببغاء، مفاده أنه عندما يزداد شعورها بالملل تصل إلى مرحلة إنهاك، فتبدأ “في نتف ريشها”، وتصيب هذه الحالة الحيوانات التي يتم إبقاؤها في الأسر، لأنها غير قادرة على الوفاء باحتياجاتها السلوكية الطبيعية، إذ تقضي الببغاوات أغلب وقتها في البرية بحثا عن الطعام وهي مهمة محفزة للغاية، نظرا لأنها تتطلب مهارات عديدة.
ولمنع الملل والرتابة.. يجب التأكد من أن الببغاء لديه رفيق مكسو بالريش، بالإضافة إلى وضع مراجيح وأفرع وأغصان في حال أراد مضغها، كما يمكن إخفاء طعامه في القفص حتى يستمتع بالبحث عنه.
أما هذا “الملل” الذي لازم طائر الببغاء على الأغلب منذ ولادة جنسه، أصبح، مع الوقت بالنسبة لنا كبشر، من الواجب تفاديه بأي شكل من الأشكال، وبات حالة نفسية. ذكر المفكر بنجامين والتر أنها لم تكن موجودة كآفة إلاّ عند منتصف القرن التاسع عشر وبين أفراد الطبقة الوسطى من المجتمع المعروفة بالبرجوازية، كما ذكر أنه لم يكن أحد قبل 1840 يشتكي منها.
فقط مع نشوء تلك الطبقة المجتمعية ظهر الشعور بالملل وبالكآبة كمأزق وجودي تتطور وتعّمق ليصبح في أيامنا هذه متصلا بتشظي العلاقات الاجتماعية والشعور بالوحدة وتشتت الانتباه والرغبة الدائمة في تعبئة أدنى فراغ بمختلف الممارسات الترفيهية أو التصرفات المُصنفة بـ”المرضية” هربا من الملل والشعور بالوحدة.
ولعل إحدى هذه الممارسات ما ذكرته عدة صحف عما قام به رجل بريطاني اسمه تيد ريشاردز، فقد أخضع هذا الرجل نفسه إلى سلسلة من العمليات الجراحية ليصبح شبيها جدا بطائر الببغاء.
استعان في البداية بفناني الوشم لتلوين جسمه، وبرع هؤلاء في تحويله إلى ما أراده مستخدمين أجمل الألوان وأكثرها انسجاما مع ريش طائر الببغاء، ثم خضع بعد ذلك إلى عمليات نزع فيها أذنيه، إضافة إلى قصّ لسانه إلى قسمين وغرز قرون معدنية في رأسه وإحداث خمسين ثقبا حديديا، وهو يبحث حاليا عن طبيب تجميل يوافق على تحويل أنفه إلى منقار شبيه بمنقار الببغاء الطائر الذي يعشقه ويعشق ألوانه الصاخبة، ثم أطلق على نفسه اسم “تيد رجل الببغاء” بدلا عن اسمه الأصلي.
يقول “رجل الببغاء” إنه منذ تحوّل إلى ببغاء تغيرت حياته، فأصبح أكثر شعبية وأقل وحدة وبات الكثيرون يطلبون لقاءه واستضافته إلى حد أنه لم يعد يعرف الملل، ويُذكر أن تيد رجل الببغاء تعرّف على شبيهته “حبيبة مكسوة بالريش” وذلك في سياق ما ذكرنا في بداية هذا المقال حول النصيحة التي تُقدم إلى أصحاب الببغاوات بأن يحضروا لطيورهم “رفيقا مكسوا بالريش” كي يمنع عنهم الشعور بالملل والوحدة المُحرضين الأساسيين على عملية “نتف الريش” الأليمة.
هل يعني التشبه بالببغاء وألوانه، الطائر الأكثر تأثرا بسلبيات الملل، هو وسيلة من وسائل التحول إلى عمل فني “مُتحرك” لمواجهة الملل والشعور بالوحدة؟ أو أن فن الرسم على الجسد كما على القماش والجدران والأرصفة ليس إلاّ “انهماكات تلوينية” لتعبئة الفراغ؟
بالطبع لا، وإن لا يزال حتى يومنا هذا الكثيرون ممن يعتبرونه كذلك: مجرد تسلية هامشية لا قيمة أساسية لها.
الملل الخاص جدا الذي يختبره كل فنان على وجه الأرض لا يأخذ صاحبه، طائرا كان أم بشرا، إلى عملية “نتف ريش” الذات، إنه مادة أولية ضرورية يجب أن يتعرض لها المرء، وهو مُحفز قوي يقول عنه الفنان التشكيلي الفرنسي الشهير إدغار دوغا “فقط حين لا يعرف الرسام ماذا يفعل، فإنه يرسم الأشياء الجيدة”.
لذا يجدر القول إلى جميع الفنانين “لا تطعموا ببغاءكم، دعوه يملّ ويسأم، لا تعمدوا إلى الترفيه عنه، دعوا ريشه يسقط من تلقاء ذاته، لا تطعموا الببغاء فلسوف يكتسي كيانه بريش جديد ورائع، ولا تتشبهوا ‘برجل الببغاء’ فقد أضل طريقه وفقد كيانه كإنسان، كفنان يرتوي بالعطش لتزهر غاباته”.