حوار مع دوستويفسكي

منذ وقت غير قصير قرأت ما قاله الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي “إن العبقرية مسألة جَلَد واحتمال طويلين، عندما تكون منهمكا بكتابة رواية، فعليك أن تعمل ساعات وساعات، يوما بعد يوم، كما أنك تحتاج إلى قوة بدنية كبيرة حتى تصل إلى النهاية”.
وإذ توقفت عند هذه المقولة، وتحدثت عنها مع عدد من الأصدقاء وحاورتهم فيها، لاحظت أن الشعراء تتراجع بنى قصائدهم، اللغوية والإيقاعية، حين تتراجع حالاتهم الصحية، بفعل أكثر من عامل، ومنها التقدم في السن، بل يتراجع الزخم الجمالي في القصيدة فتقترب من مقومات الحكمة، والفرق كبير بين الشعر والحكمة، وكنت أقول ومازلت، إن ما يكتبه المبدع في بداياته أقرب إلى جوهر الشعر وأكثر انتسابا إلى المغامرة الإبداعية، في الموضوع واللغة والشكل.
وسأفترض أن ما أنقله من آراء، قرأتها أو استمعت إليها، تشكل حلقة حوار مع دوستويفسكي، خارج الزمان والمكان، وإن كانت الآراء التي وردت فيها تؤيد ما ذهب إليه، وأذكر أنني سألت الروائي المغربي أحمد المديني عن رأيه في مقولة دوستويفسكي فأجابني بما معناه: طيلة مقامي في فرنسا تعلمت كلمة ذهبية من الرئيس ميتيران وهو كاتب متميز ومثقف عميق وواسع الثقافة أيضا، والكلمة هي “المثابرة”، إذ كان يرددها في المناسبات العامة، وبفضل المثابرة أنجز مشروعه الثقافي ومن ثم السياسي.
إن عُدّة الكتابة قبل دوستويفسكي وبعده أيضا، وستبقى دائما، إلى جانب الموهبة والرؤية ومصادر المعرفة، هي المثابرة، المثابرة على الكتابة باعتبارها عملا منتظما، وهذا ما أنا عليه الآن -والقول مازال للمديني- ولا أستطيع أن أتجاوزه، وإلا لأحسست بأنني لست على ما أريد وما أتمنى.
وفي ليلة رمضانية من ليالي عمان، التقيت فيها الدكتور أكرم عثمان، الأكاديمي والمثقف الموسوعي، وكما نفعل كلما التقينا، إذ نطيل الحوار ونتبادل الأفكار، وحين توقفنا عند مقولة دوستويفسكي سالفة الذكر، استذكرنا معا، محاضرة له تناول فيها قضية مقومات الإبداع، فهو يرى أن الأدب العظيم يحتاج إلى نوع من الكتاب ممن لا يكتبون موضوعاتهم إلا بعد اكتمالها في الذهن وبعد تقليبها على مختلف وجوهها، ومن أمثال هؤلاء يكون الكتاب الاستثنائيون، ذوو الصيت الباقي والحضور الدائم، فالأدب العظيم هو الذي يعيد التوازن إلى الفكر والمفاهيم والواقع.
يقول روجرز بيترسون أشهر رسامي الطيور في العالم والباحث في علم الطيور، إن الإقدام على رسم لوحة، حالة عبودية، كما أن التفرغ لتأليف كتاب، يشبه حكما بالسجن، ولا يتبدّل هذا الإحساس في الحالتين، إلا بعد إنجاز رسم اللوحة أو الانتهاء من تأليف الكتاب.
أما المفكر الأميركي”أميرسون” فيقول: العبقرية هي الحركة التي تعوض موت الأشياء. وتعبيرا عن هذا التوجه، قال وليم فوكنر خلال تسلمه جائزة نوبل في العام 1950: الذين سيعرفون المعاناة ذاتها والألم الذي عرفته، سيصلون إلى المكان الذي أقف فيه الآن، عندما يجاهدون في أقصى حالات الخوف والحرمان من الحب.
إن الذين يكتبون عن صراع الإنسان مع نفسه، وحدهم القادرون على الكتابة الجيدة، ومن هنا يمكننا أن نقول، إن الإبداع الاستثنائي لا يتحقق إلا بتأثير تجربة استثنائية في ما تغتني به هذه التجربة من زاد معرفي وخبرات واقعية، تتمثلهما معا إرادة حيوية وصلبة، تتسم بالمثابرة والاجتهاد، أما الذين يتوهمون بأن الموهبة تولد مع الإنسان وترافقه من المهد إلى اللحد وتمنحه ما يريد وما يتمنى، من دون أن يبذل أي جهد، فأمثال هذا الإنسان ينتهي إلى لا شيء، وينتهي مشروعه الإبداعي -إن كان له ثمة مشروع إبداعي- إلى فراغ.