شغف فني

ظاهرة "المنح" الثقافية والفنية المستشرية ليست بالبراءة الكاملة التي تظهر عليها، إذ يلعب "الواسطة"، دورا لا بأس به في أن يكتسب أي مؤلف أو عمل فني النصيب في انتقائه.
الجمعة 2019/02/08
سريالية من العيار الثقيل

ماضيا، سألني أحد الأصدقاء في سياق الحديث عن وعكته الصحية “من هو أفضل طبيب؟”، أجبته “أفضل طبيب هو الذي يظهر غالبا على الشاشات التلفزيونية”. وقصدت بذلك أن الإعلام عن أمر أو شخص ما يغلب في أحيان كثيرة حقيقة أهمية المُعلن عنه، وذلك مهما كانت الوسائط الإعلامية المُتبعة، وإن كان للإعلام البصري الأهمية الكبرى في هذا الزمن.

ويعدو أن يكون مصير كل ناشط في الحياة مرتبطا بدرجة إعلانه عن ذاته وعن عمله، فما بالك إذا كان هذا الناشط ليس لديه ملكة الترويج عن الذات؟ والأمر يصبح أسوأ إذا صادف أن يكون “الناشط” كاتبا غير سياسي أو فنانا.

أما ما أحالني إلى هذه الذكرى، هو أنه منذ بضعة أيام علمت بأن بعض المكتبات اللبنانية (ولا أعرف إذا الأمر ذاته عالميا) لا تضع للناشر كتبا له في أجنحتها، إلاّ إذا كان سبق للمؤلف أن كتب عن مؤلفه الجديد في الصحافة.

من ناحية، هذا أمر عظيم ويدل على أهمية الكتابة الصحافية الجدية في زمن تموت فيه الصحف الورقية لنقص الدعم والتمويل وليس لنقص الكتّاب، ومن ناحية ثانية يبدو في هذا الموقف سريالية من العيار الثقيل، إذ تطلب من الكتّاب أن يُكتب عنه قبل أن يُقرأه الجمهور، أو حتى يلفت نظره على رفوف المكتبات. وينسحب ها الأمر على الفن التشكيلي والمعاصر بأنواعه، فكثيرون هم الفنانون الذين أعرفهم (والكثير ممن الذين لا أعرفهم) لا يملكون الحيلة الكافية للتواصل بأروقة فنون مناسبة أو هم لا يملكون المال الكافي لدعم مشروعهم الفني كي يبصر النور، ويجدر الذكر هنا أنه حتى ظاهرة “المنح” الثقافية والفنية المستشرية ليست بالبراءة الكاملة التي تظهر عليها، إذ يلعب “الواسطة”، كما جرى على تسميتها، دورا لا بأس به في أن يكتسب أي مؤلف أو عمل فني النصيب في انتقائه.

رسالة فنية
رسالة فنية

لقد غبتُ عن ساحة العرض الفنية ونشر الكتابة الروائية سنين كثيرة، وكان آخر معرض قدمته وبدأت أتجه فيه إلى فن التجهيز، في بداية حرب يوليو 2006 المُفاجئة ولم يدم المعرض أكثر من يوم، أما آخر مؤلف فكانت عشية توقيعه في اليوم التالي التي فقدتُ فيه دار النشر بحادث انفجار أودى بحياة إحدى أهم شخصياتها.

عودتي اليوم بعد كل هذه السنين جعلتني أكتشف ما آلت إليه سوق الكتابة والعرض الفني، وجعلتني أتأكد أكثر من قبل بأهمية الترويج ما قبل وما بعد الحدث الفني، والعثور من جهة على صالة تؤمّن بالأعمال التي تُقدّم كي تدخل في تجربة عرضها، ومن جهة أخرى طباعة ونشر أي مؤلف يتم تقديمه.

هكذا أصبح بوسعي اليوم، ربما، أن أقدّم نصيحة لكل من أراد تقديم عمل فني أن يجد لنتاجه جانبا يدعمه معنويا وماديا وذلك أكثر بكثير من السنوات الفائتة، وأن يكون مُحصنا بشغف خارق حتى يصل إلى تحقيق ما يريد، أو على الأقل أن يكون جزءا وافيا مما يريد، وأجد هنا فرصة ملائمة لكي أقدّم فائق احترامي إلى كل الفنانين المغامرين والأدباء الذين خاضوا ويخوضون معترك التجربة وهم معتمدون فقط على ما يدرّ عليهم فنهم أو كتابتهم.

هذا زمن صعب يعيش فيه كل كائن خلاّق وحيدا ضمن مجموعة هائلة من الناس مشغولة بهمومها المُتعاظمة، أدعو كل فنان أو كاتب أن يتلقف بصيص العديد من النجوم التي تتألق من حوله وتؤمن بعمله، لكي يوحّد جهده مع جهدها لتصل الرسالة، الرسالة الفنية.

الزمن الذي كانت فيه الأعمال الفنية والأدبية تتحدث عن ذاتها وهي سفيرة ذاتها إلى العلن قد ولّى، ويترتب على الفنان أن يتشبّه بأرباب الأعمال وأن يخرج من عزلته ويبذل جهدا مُضاعفا لتحقيق حضوره على الساحة الفنية والأدبية.

هل يستحق الفن والكتابة الأدبية كل ذلك؟ بالطبع يستحقان، كما تستحق الحياة بنسختها العابرة للموت كل هذا الألق.

17