"المومياء" لشادي عبدالسلام.. أموات دُفنوا مرة ثانية

المومياء فيلم مصري من إنتاج 1969 ومن إخراج شادي عبدالسلام (ولد في العام 1930 وتوفي في العام 1986)، يتناول قضية سرقة الآثار المصرية. نال الكثير من الجوائز الدولية واحتفلت به مهرجانات عالمية لأكثر من سبب يخص طروحاته الفكرية ومعالجاته الفنية. “المومياء” ليس ككل الأفلام، ولا يمكن دمجه ضمن الخزانة السينمائية المصرية بمنتهى البساطة أو الأرشفة المكتبية التقليدية.
لأنه شريط يُعمل مشرطه في موضع الداء، ويمضي نحو أكثر من سؤال يتناسل وينفتح حول مفاهيم الهوية القابلة للتحرك في اتجاهات متشظية، يطرح “المومياء” مفهوم إرث ثقافي قابل لقراءات متعددة، ومطروح نحو تأويلات مختلفة، ثم إنه يسأل الإرث عن إرثه عبر حكاية عائلة مصرية تحترف بيع الآثار لمن لا آثار لهم. نحت المخرج شادي عبدالسلام فيلمه “المومياء” من معاناة شعبه في منتصف القرن الماضي، وأراد أن يقول لبني قومه “تمهلوا.. إن لأجدادنا رسالة لا تباع بالنقود عبر بيع الآثار”.
تخرج صاحب الفيلم الذي رشح إلى أكثر من أوسكار، من كلية فيكتوريا في الإسكندرية سنة 1948، درس المسرح في لندن من عام 1949 إلى عام 1950 وتخرج متحصلا على شهادة الهندسة من كلية الفنون الجميلة في القاهرة في العام 1955.
يبدأ العمل بمشهد مصري يخاطب المشاهد مستعملا عبارة “المومياء تبعث، فالمجد لك، للسماء وشموخها، للأرض وعرضها، للبحار وعمقها، يا من تذهب ستعود، يا من تنام سوف تنهض، سوف تأتي إلينا”.
بهذا المعنى فإن الفيلم هو نداء يكاد يوقظ الأموات من قبورهم، ويجعل من السينما “كارثة”، أو هي أجمل “كارثة حميدة” يمكن أن تحل ببني البشر، وتوقظ الجذوات في فيلم لم يحظ بمشاهدة شعبية، لكنه في المقابل لقي احتفاءات عالمية كثيرة.
ولذلك مازال نقاد كثيرون يعتبرون “المومياء” أيقونة العرب في الاحتفاليات السينمائية العالمية، في مرحلة أواسط القرن الماضي. وهو فيلم أُسيل حوله حبر كثير، واندهش جمع كبير أمام مشاهده الموغلة في جماليات لم تعهدها الكاميرا العربية، فكأنما شخوصه “مومياءات” جاءت لتقول لتجارها “كفوا عن النخاسة.. إننا مازلنا على قيد الحياة”.
ما يميز "المومياء" هو فن التقاط شظايا تاريخ مصر وإعادة تركيبها ضمن وحدة تاريخية تعانق الأبدية في لغة شعرية تسخر من السياسي وتتغنى بملحمية مصرية
“المومياء” فيلم ناطق بعربية فصيحة زمان الرئيس المصري جمال عبدالناصر، لا لمغازلة عروبيته ونهجه القومي الشعاراتي، ولكن للقول إن مصر عربية “في صيغة أخرى ومختلفة” عن طريق مخرج يجيد الاختلاف ولا ينسى هويته المتشابكة.
وإن كان فيلم “المومياء” في نظر جمهور النقاد والمشاهدين عملا موغلا في الطقوسية والرمزية التي لم تعهدها السينما المصرية منذ نشأتها تبعا لأنها اعتمدت على بساطة السرد الحكائي ووضوح المعالجة الفنية، فإن مخرجه شادي عبدالسلام استند إلى واقعة تاريخية حقيقية دوّنها عالم المصريات الفرنسي غاستون ماسبيرو (1846-1916) في كتابه المومياوات الملكية.
الحادثة التي وثقها عالم الآثار الفرنسي، بدأت أحداثها في عام 1010 قبل الميلاد، حين قرر كهنة آمون إعادة تكفين فراعنة الدولة الحديثة في توابيت جديدة حفاظا عليها من ناهبي القبور ونقلوها في سرية إلى مقبرة مهجورة للأميرة “أتحابي”. تكاد هذه الحادثة تتكرر بجميع حيثياتها بعد ما يزيد عن 28 قرنا، حين اكتشف أفراد عائلة عبدالرسول، الذين يعيشون في صعيد مصر، المقبرة في العام 1871، واستأنفوا مسلسل السرقات في ما يشبه اللعنة المتكررة.
وبسبب خلافات دبت بين أفراد أسرة عبدالرسول، قام أحد أبنائها بإفشاء سر المقبرة وما تحتويه من كنوز، فأرشد محمد عبدالرسول في 6 يونيو 1881 عددا من علماء الآثار ومفتشيها إلى المقبرة السرية، وتم اكتشاف المخبأ الذي يحتوي على أربعين تابوتا تنتمي في معظمها لملوك الدولة الحديثة. واعتبر ذلك الاكتشاف آنذاك، أهم حدث أثري في نهاية القرن التاسع عشر.
وكان على هذه الحادثة أن تنتظر ما يقارب التسعين عاما، ليأتي المخرج شادي عبدالسلام ويحولها عام 1969 إلى رائعة سينمائية تستنطق التاريخ الفرعوني، وتبحث في حلقاته المفقودة لتجعله مسارا زمنيا موحدا، لا تؤثر فيه مستجدات التاريخ السياسي ولا التقلبات الاجتماعية والاقتصادية.
إن حرص كهنة آمون على إنقاذ فراعنة الدولة الحديثة آنذاك من ناهبي المقبرة هو نفسه حرص محمد عبدالرسول بعد 3000 عام على إنقاذ ذات المومياء من ناهبي القبور في أواخر القرن التاسع عشر، مما يعطي الإشارة إلى أن لا شيء تغير في مصر، فناهبو الأزمنة السحيقة هم أنفسهم ناهبو الأزمنة الحديثة، والغيورون على الإرث الفرعوني لم يتغيروا بدورهم.
وجاء فيلم شادي عبدالسلام ليؤكد على نفس المقولة في ستينات القرن الماضي بكل ما تعنيه هذه الحقبة من معنى في دولة تتوق لاستعادة ثقلها التاريخي والحضاري، لكنها تكبو بفعل ضبابية وتشويش الرؤية السياسية والثقافية.
ولعل ما يميز فيلم “المومياء” هو فن التقاط شظايا تاريخ مصر وإعادة دمجها وتركيبها ضمن وحدة تاريخية تعانق الأبدية في لغة شعرية تسخر من السياسي وتتغنى بملحمية مصرية عمرها الآلاف من الأعوام.
ما يقوله شادي
يحكي شادي عبدالسلام قصة إخراج فيلمه “المومياء” فيقول “كنت قد قرأت قصة اكتشاف المومياوات في الدير البحري لأول مرة عام 1956، وهي التي أصبحت موضوع أول أفلامي”. ويضيف “منذ عام 1963 وأنا في بولندا أثناء العمل في فيلم فرعون، جعلني الحنين إلى مصر أفكر في هذا الموضوع في ليلة شتاء باردة جدا وكان التفكير هادئا وبعمق شديد”.
ويستمر عبدالسلام في سرده للخلفية المحرضة لصناعة الفيلم “قلت لنفسي أين هذا المناخ من مصر.. ومن هنا بدأت رحلة المومياء في عقلي، وفي عام 1965 ظهر الشكل الأول.. قصيدة شعر من 40 سطرا تقريبا كتبتها على لسان الغريب.. إنها ليست قصيدة بمعنى الكلمة لكنها نظم أقرب منها إلى الشعر، وبعدها بدأت أكتب السيناريو”.
“في البداية كان فيلما واقعيا تقليديا أطلقت عليه ‘دُفنوا مرة ثانية’، ثم ‘ونيس’، ولكنني لم أكن متعجلا، وكنت أبحث للوصول إلى الشكل الملائم تماما للتعبير عن نفسي”.
وفى مارس 1968 بدأت التصوير مع عبدالعزيز فهمي الذي اعتبره يدي اليمنى، وأصدقائي وتلاميذي سمير عوف مساعدي الثاني وصلاح مرعي مهندس الديكور، وأنسي أبوسيف مهندس الديكور أيضا، وكلهم من خيرة الشباب في السينما المصرية.
ويضيف صاحب “المومياء” مستطردا “لقد كتبت السيناريو قبل 5 يونيو 1967، وصورت الفيلم في 22 مارس 1968 وكان لهذا اليوم تأثير كبير سواء كان واضحا في الفيلم أم لا.. لقد خجلت يومها من النظر إلى المرآة”. وكان العمل من بطولة ألمع النجوم أحمد مرعي ونادية لطفي وزوزو حمدي الحكيم وشفيق نورالدين.
‘المومياء’ ليس أكثر من 24 ساعة تمثل لحظة وعي أو ضمير لم ينضج بعد عام 1881، أي قبل عام من الزحف الاستعماري الإنكليزي على مصر عام 1882.
يلخص عبدالسلام ما أراد الذهاب إليه في شريطه بالقول “إنني أحاول في الواقع أن أعبر عن قضية عامة جدا لكنها تأخذ القالب المصري، البيئة والحياة والتاريخ الذي أعرفه وأحس به أكثر من غيره”.
عام 1969 وبعد انتهاء تصوير الفيلم، تردد المسؤولون في عرضه على الجمهور المصري بحجة أنه يعتبر فيلما غير جماهيري ولن يحقق الإيرادات المنتظرة.
ويؤكد الأرشيف السينمائي المصري أنه في عام 1974 قرر يوسف السباعي، وزير الثقافة آنذاك، عرض الفيلم داخل مصر باعتباره عملا فنيا متكاملا يصل بالفيلم المصري إلى المستوى العالمي، وذلك بعد أن شاهد عرضا للفيلم بطوكيو أثناء زيارته لليابان.
ما يقوله الفيلم
الأحداث والوقائع التي أحاطت بفيلم شادي عبدالسلام، الروائي الأول والأخير والمعنون بـ”المومياء” أو “الليلة التي تحصي فيها السنين”، تمثل خلفية مؤثرة وفاعلة، إذ لا يمكن تجزئتها عن السياق التاريخي العام للفيلم.
فلقد جاء الفيلم في أعقاب تنامي مد الحركات الطلابية في فرنسا وبلدان أخرى، كما جاء بعد هزيمة عام 1967 وما شكلته من دعوة عميقة لإعادة النظر في كل شيء مما صنع تيارا جديدا في السينما العربية، حيث تميز بأصالة رؤيته البصرية في خلق الصلة بين مصر الفرعونية ومصر المعاصرة.
وقد وجد نقاد آخرون في هذا الفيلم أسلوبا جديدا في طريقة الإلقاء وحركة الممثلين والأداء المسرحي الذي أدى به أغلب الممثلين أدوارهم، وذلك التروي الشديد الذي يسرد به الفيلم، ولمسة الغموض والتعقيد في السيناريو التي تحتاج إلى وعي حاد لم يكن للمتفرج المصري عهد به.
"المومياء" فيلم يخلص النخبة من الدهماء، وينتصر للواقع مع الواقع، إنه شريط يجعل من المصريين مصريين، ويعطي للتاريخ فرصة للتحدث عن التاريخ
ومن المعروف أن هذا الفيلم لم ينجح تجاريا في مصر، وقيلت أسباب كثيرة في تبرير هذا، منها أن شادي فاجأ المتفرج بحوار فصيح لموضوع تدور أحداثه في نهاية القرن التاسع عشر، كذلك كان الفيلم شيئا جديدا في طريقة الإلقاء وفي الحركة وبطء السرد والحرص على الغموض في السيناريو.
حصل فيلم “المومياء” على جائزة جورج سادول عام 1970، وجاء في ديباجة الجائزة “من أجل أصالة رؤيته البصرية بين مصر الفرعونية ومصر المعاصرة”، كما نال جائزة النقاد في مهرجان قرطاج عام 1970، كأحسن أفلام المهرجان الروائية، وقد عرض هذا الفيلم ولفت الأنظار إليه في مهرجان فينيسيا ومهرجان لندن الدولي الذي يعرض أبرز أفلام المهرجانات.
الفيلم الذي اعتمدت فكرته على حادثة حقيقية في سرقة الآثار الفرعونية كما أسلفنا القول، لم يهمل البنية الدرامية الكلاسيكية في حوار القيم والواجبات، ذلك أن بطله ممزق بين ضرورة البوح بحقيقة نهب عائلته للمقبرة الفرعونية كإرث قومي ثقافي يخص البلاد بأسرها، وبين الوقوع في موقع الخيانة والوشاية بأسرته من وجهة نظر أعراف القبيلة، بالإضافة إلى الضرر المادي الذي سيطال عائلته.
وتتوالى الأحداث في إيقاع هادئ وحوار بطيء إلى درجة تستدعي انتباها دائما إلى أن يعترف البطل بسره إلي رئيس بعثة الآثار فيتم بذلك اكتشاف مقبرة “مومياوات طيبة” (1881) في الدير البحري، لكن قبيلته، التي تعيش على سرقة المقابر الفرعونية والاحتفاظ بمكانها سرا تفقد مورد رزقها الوحيد، تلفظه ويبقى وحيدا وخائنا من وجهة نظر قبيلته.
ويلفت الناقد السينمائي عبدالغني داود النظر إلى أن شادي عبدالسلام قال يوما “إنما أبحث عن جوهر الواقع السيكولوجي، وأهتم بالحركات والتطورات الكبيرة التي حدثت في حياة الإنسان أكثر من تفاصيل حياته اليومية، ونظرتي نظرة شاملة لبطلي كشخصية مصرية وليس كنمط”.
ويعلق عبدالغني داود علي هذا بقوله “إنه (أي شادي) لا يُعنى في أفلامه بالتعبير عن الحركة إلا قليلا ليحقق التركيز على ما تحتله الأعماق من قوة تمثل التوازن، وما نجده من الإيقاع المتمهل لحركة الممثل والكاميرا بما يتيح للمتفرج فرصة التأمل في العناصر البصرية في أفلامه والتفكير في قيمتها الدرامية”.
خارج السرب
فيلم موجع ومخيف، لم تألفه العين العربية المتعودة على الإمتاع والمؤانسة، تلك العين الكسولة، ذات الزوايا الواحدة والمتوحدة في نظرتها للواقع والوقائع. لأن “المومياء” قلب ينبض حياة وأملا وحسرة، ولكن بطريقة مختلفة، إنها قلب العارف قبل هلاكه وحراس الخطر قبل أوانه.
“المومياء” شريط لا يحبه الكسالى ولا القائلون بفكرة “عدت إلى البيت فرحا مسرورا”، إنما هو عمل مربك، وقوي على ضعاف النفوس وظالم إلى حد الكبرياء.
“المومياء” يقول لمشاهديه إنكم “مومياء”، وبإمكانكم أن تختاروا طريقة أخرى لموتكم وتحنيطكم، وحتى لاختيار دفنكم في أزمنة التيه.
شادي عبدالسلام كان مغردا خارج السرب في شريطه “المومياء”، ذلك أنه أراد أن يقول على لسان أحد أبطاله للمومياء الغافية “انهض فأنت أجمل الأحياء.. أليس كل العرب ‘مومياء’؟ إننا أموات مؤجل دفننا وتوابيت تسحلها خطواتنا.. سر نحن نتبعك في جنازتنا”.
اتهم شادي عبدالسلام بالكثير من اتهامات العصر كواحد من المبشرين بفجر جديد، وصنف فيلمه من “الجرائم المرتكبة في حق العرب”، لكن عمله ظل أيقونة تعلو فوق رؤوس محبيها.
“المومياء” فيلم يخلص النخبة من الدهماء، وينتصر للواقع مع الواقع، إنه شريط يجعل من المصريين مصريين، ويعطي للتاريخ فرصة للتحدث عن التاريخ.
هو ببساطة شريط يقول للمصريين “أنتم مصريون” دون مكابرة أو عناد، وأمرهم بالذهاب نحو الاستحقاق التاريخي.
“المومياء” لشادي عبدالسلام فيلم يجعلنا نتوقف عنده لأكثر من مرة، ولأكثر من سبب، أولها أنه جعل العرب في السينما أصحاب صورة قبل أن يكونوا أهل ثرثرة، ثم إنه قال لهم “قوموا من سباتكم.. لقد آن الأوان.. انهضوا فأنتم أجمل الحالمين”.