العالم يتنفس

ما لامس الفن أمرا أو شيئا إلاّ وأخذه إلى أبعاد أخرى لم يعد فيها بالشكل المحدود الذي تجلى فيه بصورته الأولى، وبالرغم من ذلك ثمة من يجد في الفن هرطقة هامشية لا قيمة لها على أرض الواقع لاسيما حينما يقدم تصورا مُغايرا تماما أو بديلا للعالم الذي نعيش فيه، مع علم هؤلاء المستهترين بقيمة الفن وأنّ معظم التصورات السينمائية المُظهرة في تشكيل المنازل في أفلام الخيال العلمي مبنية على ما قدمه فنانون من إبداع. إبداع أسس أيضا لنظريات واكتشافات علمية باهرة ولا يزال يلعب هذا الدور في كل المجتمعات الإنسانية لاسيما المتطورة منها.
وفي ظل التغيرات البيئية الحادة نحو الأسوأ والتقدم التقني والديجيتالي الهائل الذي يهدد الكيان الإنساني جاعلة منه كيانا مائعا يتخبط في رمال العالم المفتوحة والمُتحركة، لم تعد البُنى المعمارية أو الجنائن الأرضية التي أبدع في تخيلها وتحقيقها أهم الفنانين من أمثال نيكي دو سات فال والفنان النمساوي هندرت فاسا وغيرهما كثيرون، بنى تخطت المعقول ولا تعكس إلاّ جنون مُبدعيها.
وإن كانت هذه الهندسة الثورية والفن الثوري يمثلان أي شيء اليوم، فهما يمثلان انصهار العلم مع الفن وتوق الإنسان إلى إنسانيته ومُثله الروحية “العتيقة”، التي هو في خضم الابتعاد عنها.
وإذا كانت أعمال الفنان والفيلسوف والمهندس هندرت فاسا والفنانة الأميركية/الفرنسية نيكي دو سانت انتمت إلى القرن الفائت وحصدت الكثير من الاستغراب في بداية ظهورها وتجلت أمام معاصيرهما كضرب من ضروب الجنون الملون، فالفنان الأرجنتيني المعاصر جدا توماس سارينو شيّد خارطة عالم متحول ومتحرك يؤكد “النظريات” التي قدمها هذان الفنانان وغيرهما من الفنانين أصحاب الرؤى اللافتة.
رؤية الأعمال التجهيزية في المعرض مقترنة بموسيقى ملائمة تؤكد أن الفنان ينتمي إلى فكر فريديريك هندرت فاسا ورؤية نيكي دوسان فال كفنانين “بيئيين” يملكان فلسفة تضع الإنسان في تماس كبير مع الطبيعة
قدم الفنان الأرجنتيني عالما يشبه عالمنا كثيرا، ويحلو لنا تخيل بيوتا وحدائق صممها الفنانان السابق ذكرهما، تنتصب بين المساحات الضيقة المستطيلة والمُربعة والملونة لخريطته الديجيتالية الهيئة.
خارطة بالرغم من أنها ترتكز في بنيانها على الخط المستقيم، الخط الذي “يكرهه” الفنان النمساوي ويعتبره “خطا شيطانيا يمثل السقم المستشري في نفوس البشر”، والخط الذي “تفادته” الفنانة نيكي دو سانت فال، فهي خارطة تآخي، تحاكي في تقلبها وارتفاعاتها المدوخة الحركة الطبيعية للموج العاتي.
وقد استضاف مؤخرا “قصر طوكيو” في باريس معرضا استعاديا للفنان الأرجنتيني توماس سارينو يحمل عنوان “في الهواء” يعيد النظرة إلى العالم الذي نسكنه، والذي تتخالط فيه الحدود وتكثر الهجرات وتُفقد فيه الجاذبية التي تشدنا إلى الأرض وتبقي الأشياء مع بعضها البعض، تفقد أي قيمة أساسية.
فالزمن هو اليوم زمن التخلي عن الثبات والاعتياد على فكرة التحرر من معنى الحدود جغرافيا كان أم شعوريا، وضمن هذا المعرض تمكن الزائرون من مشاهدة حال العالم في عمل فني واحد، ربما هو الأروع من بين ما عُرض.
رؤية الأعمال التجهيزية في المعرض مقترنة بموسيقى ملائمة تؤكد أن الفنان ينتمي إلى فكر فريديريك هندرت فاسا ورؤية نيكي دوسان فال كفنانين “بيئيين” يملكان فلسفة تضع الإنسان في تماس كبير مع الطبيعة وتبدلاتها وألوانها وتعرجاتها البعيدة عن ملل التراتبية والتماثلية والأسمنتية، وبعيدا جدا عن رفاهية المكننة المُلتبسة التي تمكن الفرد، على سبيل المثال، من أن يفتح الأبواب في بيته والستائر بكبسة زر.
قدم الفنان الأرجنتيني توماس سارينو عالما بديلا عن عالمنا، يتعايش فيه الديجيتالي بالطبيعي ليكون أشبه بتلاقح ما بين فنه وفن النمساوي الذي سبقه بقرن فريديرك هندرت فاسر، الذي قال سنة 1975، أي قبل نحو نصف قرن من الآن، “أردت أن أظهر كم هو سهل ومُمكن أن تكون الجنة على الأرض”.