الفانتازيا الروائية تسمح باختراق حواجز الزمان والمكان

استقر الروائي والباحث السوري مازن عرفة مؤخراً في ألمانيا، بعد أن ترك سوريا شاهدا على حصار الحيّ الذي يقطنه في ريف دمشق، ومن العزلة الإجباريّة التي اختبرها في منزله، كتب روايته الثانيّة، “الغرانيق”، التي صدرت هذا العام، والتي نقرأ فيها عن عوالم فانتازية ووحشيّة، يكسر فيها نظام عسكريّ قمعي أعناق الخاضعين له ويهيمن على مخيلتهم. “العرب” التقت عرفة للحديث معه عن روايته التي تقارب شهادة فانتازية على التخريب الممنهج للعقول والأجساد.
تتلاعب الأنظمة القمعية بتكوين الصور والمعاني في اللاوعي، ساعية لرسم أيقونة مقدسة لـ”الزعيم الجنرال”، ومن هنا نبدأ حديثنا مع الروائي مازن عرفة عن الكتابة والمساحات الفانتازيّة في الرواية، وقدرتها على تفكيك هذه الصورة، وإعادة رسم المعاني في عقولنا، إذ يرى أن صورة “الزعيم /الجنرال / الطاغية” تلاحق الطفل وتفاصيل حياته اليوميّة منذ تلمسه للحياة في مجتمعات الأنظمة القمعية العربية، وصولا إلى اختراق منطقة “الخيال والأحلام” لديه. إذ يتم زرع هذه الصورة في لاوعي الطفولة المبكر، عبر تجنيد الطفل في منظمات طلائعية ميليشياوية، تتعيش على “عبادة الفرد” بالمفهوم الستاليني، لتتكفل بعدها عسكرة الحياة اليوميّة بمسيرة حياته “التعبوية” عبر المنظمات الحزبية.
جنرالات ساديون
يقول عرفة إن “أيقونة ‘الزعيم الجنرال’ تتجاوز عبر كثافة بثّها على وسائل الإعلام مفهوم المكان التقليدي، إذ تجتاح الشارع والمؤسسة والمنزل نحو الشخصي الحميمي والمخيلة الفرديّة، بصورة الرعب الذي تبثه الآلة العسكرية لـ’الزعيم الجنرال’، القادرة على تحويل أفراد ‘القطيع” إلى حشرات كـ’صرصار كافكا’، يمكن سحقها ببساطة بـ’البوط العسكري’ إذا ما فكرت بالتمرد”.
ويضيف “يتحول الزعيم الجنرال عبر كثافة إعلامه الموجه إلى واحد من أشباه الآلهة أو الغرانيق، الذي تُمارسُ طقوس العبادة الدينية -بالمعنى الحرفي للكلمة- أمام تمثيلات أيقوناته المختلفة من تماثيل وصور ورموز عسكرية، ثم يتحول إلى إله وهمي تخيلي يمارس سطوته في اللاوعي الفردي والجمعي. ومن هنا يمكن فهم أهمية انفجار انتفاضات الربيع العربي في لحظتها التاريخية، بوصفها تعبيراً عن انتهاء مرحلة ‘عبادة الفرد’ الستالينية العربية؛ أو عبادة الغرانيق، الممتزجة بشكل فريد بأحوال ‘الاستبداد الشرقي’ و’الترييف العسكري الطائفي’ و’التدين الطقوسي’، والمزروعة عنفاً في لاوعي جيل كامل، ويمكن القول، دون إهمال النهايات التراجيدية للانتفاضات العربية في مرحلتها الحالية، إن جيل الشباب العربي استطاع تحطيم حواجز الرعب”.
تحضر صورة الطاغية في رواية مازن عرفة “الغرانيق”، الصادرة هذا العام عن دور نوفل- هاشيت أنطوان، بوصفه شهوانيا، شبقيا، مهووسا بالعنف، وكأن عرفة يرسم صورة كاريكاتوريّة مضخّمة له، تختزل في ذات الوقت متخيلاتنا عنه، ما يجعل المساحة الروائيّة مساحة للعب الجديّ بمعناه النقديّ، وهذا ما دفعنا لسؤال عرفة عن سبب خوف الطاغية من ألعابنا، وما هي الأساليب التي اختلقها ليتحكم بنا، بحجة التسلية والترفيه كما نرى في المسرح والتلفاز وغيره من المنتجات الثقافيّة.
يجيب عرفة أنه في أصول “السادية السياسية” تتجذر “السادية الجنسية”، ولا فرق كبيرا بينهما مادامتا تشتركان في إنتاج المتعة للسادي عبر التلذذ بتعذيب “الآخر”، لكنهما في مجتمعات الاستبداد العربية تتحولان بسطوتهما إلى شبق عنفي يتجاوز الآخر الفردي إلى الآخر الجمعي. ففي “الغرانيق” تبدو صورة الطاغية الغرائبية السادية مضخمة بنوع من السخرية السوداء أو الغروتيسك، عبر تجميع صور واقعية متعددة، متكاملة لا متناقضة، للديكتاتور العربي، أو بالأحرى للديكتاتور بمعناه المطلق الذي يخترق الزمان والمكان.
ويضيف “الخطورة في هذه الصورة أنها في مجتمعات استبداد شرقية، مهووسة بالطقوسية الدينية، تتناسل لدى المريدين من أدوات القمع، فيتحول كل منهم إلى ديكتاتور صغير، متشرب بالسادية، لكن الأخبار عن الديكتاتور تتسرب إلى الشارع، فتقوم المخيلة الجمعية الشعبية بالتقاطها وبناء هذه الصورة المرضية بكل مزاج السخرية والتهكم، كرد فعل أولي على الاستلاب والتهميش، وهنا يكمن رعب الطاغية وحاشيته”.
لذلك يرى الروائي أنه إلى جانب العنف الممنهج، تلجأ آلة الطاغية الإعلامية عبر منتجاتها الثقافية إلى محاولة امتصاص النقمة الشعبية عبر هوامش ترفيهية ترقيعية، كمباريات كرة القدم، والمسلسلات الفكاهية، والاحتفالات الشعبية العفوية، والرفع الوهمي لمستوى الأجور، وتشجيع نمط “التسوق الرأسمالي”، وهي تعتقد أن هذه الأحلام الوردية ستجعل البلاد المهمشة تنسى بيوت الصفيح وعشوائيات الفقر السكني.
الحكاية كاختزال للتاريخ
أحد أولى تساؤلات “غريغور سمسا”، بطل كافكا، بعدما استيقظ ووجد في فراشه حشرة ضخمة، كانت عن كيفية ذهابه للعمل، كان المهم هو متابعة حياته بالرغم مما حصل، هذا الانمساخ وتطبيعه يحضر في “الغرانيق”، بوصف الناس تسلّم بما يحل بها، وتسعد بالنجاة مما يمكن أن يصيبها بالرغم من “الانمساخ”.
يقول الروائي “إن هذه المقاربة يمكن أن تنطبق على القسم الأول من ‘الغرانيق’، حيث تجري الأحداث في بيئة استبداد ديكتاتوري عابرة للزمان والمكان، مع أنه يُستشف منها أجواء كافكاوية عربية”، ويضيف “في الأقسام الثلاثة التالية، يحدث الوعي والتمرد، لذلك نرى الراوي بضمير المتكلم نفسه على طول الرواية كلها، وإن تعددت شخصياته الانفصامية بسبب تشظي الفرد /الإنسان العربي أصلاً، من ‘الممسوخ’ إلى ‘المنتفض’، لكن هذا الثاني سرعان ما يجد نفسه بين ‘منتفض سلمي’، نتاج الطبقة الوسطى، و’منتفض عنفي’ نتاج الترييف المحافظ. ويتسيّد الثاني الساحة كرد فعل انعكاسي على عنف الترييف السلطوي الطائفي”.
ويقر عرفة أنه يمكن لأحداث “الغرانيق” أن تعبّر عن تجربته الشخصية في انتفاضة بلدته في أشهرها الأولى، كنموذج لمعظم المدن والبلدات السورية المنتفضة، فيما يشبه الوثائقية كتجربة عيانية وحياتية، تنزاح بالكامل لصالح الفانتازيا، التي تسمح باختراق حواجز الزمان والمكان والواقع، ففي المحصلة هذا أدب، كما يقول، والأدب لا تقوم وظيفته على إعادة تكوين بنيتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية، بل في توثيق حكاية، وهنا حكاية الانتفاضة في مواجهة إعلام البوط العسكري والسيف الإسلامي المزيفين.
يتبدل الراوي بضمير المتكلم في “الغرانيق”، بين شاب منتفض وزعيم جنرال طاغية، ليظهر فجأة في الصفحات الأخيرة كـ”أمير إسلامي”، وكأن الشروط التي يُنتج فيها الفرد محكومة مسبقاً، أشبه بلعبة مبرمجة، ذات نتائج محسومة، وهنا يعقب عرفة بقوله إنها ليست لعبة مبرمجة، وإنما العنف ضمن شروط الاستبداد بتراكماته التاريخية وسيرورة استمراريته، هو الذي يقود إلى حتميات محددة، وبخاصة مع انحسار تأثير سيطرة الطبقة الوسطى على أحداث الانتفاضة بسبب العنف الموجه إليها.
نقرأ في “الغرانيق”، عن يد الجنرال التي تتسلل إلى كل ما هو موجود وتخربه، سواء كان في الواقع أو في المخيلة، أو حتى في باطن الأرض التي تختزن جثث ضحايا القمع، لكن الأحداث التاريخية تتداخل بشدة مع وقائع الفانتازيا، فيصبح الواقع مائعاً، أو بالأحرى الإدراك لهذا الواقع يغدو مائعاً، فنحن في ظل القمع، أمام حكايات متداخلة، تترك الفرد إما أن يؤدي حياته كآلي، وإما أن يعيش في “لا إيمان” عميق ساخراً مما يحدث أمامه، وضمن هذه الشروط يرى عرفة أن الفانتازيا والسخرية والكوميديا السوداء والغور في أعماق النفس الإنسانية عبر تداعيات اللاوعي وأحلام اليقظة والمونولوجات الداخلية والإغراق في العوالم الداخلية وسائل تقنية روائية حديثة تعمل بامتياز على التفكيك والانتقاد.