مغامرة ماري كولفن القاتلة في "حرب خاصة"

فيلم للمخرج الأميركي ماتيو هاينمان يعيد إلى الصدارة دور المراسل الصحافي في مناطق النزاعات، ومقتبس من مقال صحافي عن الصحافية البريطانية ماري كولفن.
الجمعة 2018/11/02
امرأة جامحة المشاعر لا يثنيها شيء

مازالت الأحداث الدامية التي تجري في سوريا توفر مادة سينمائية، ليس فقط للأفلام التسجيلية، بل وللأفلام الروائية الطويلة التي تنتج في الغرب، وأحدثها، بل ربما أهمها الفيلم البريطاني-الأميركي المشترك "حرب خاصة" للمخرج الأميركي ماتيو هاينمان.

عُرف المخرج الأميركي ماتيو هاينمان بأفلامه التسجيلية التي نالت العديد من الجوائز الدولية، ومن أهم هذه الأفلام “أرض الكارتل” (2015) الذي يتناول دور ضابط ومدمن مخدرات أميركي تائب كوّن مجموعة من الرجال المسلحين، أخذت على عاتقها حماية حدود ولاية تكساس من مهربي المخدرات الذين يتسللون من المكسيك، وبالتعاون مع طبيب مكسيكي على الجانب الآخر من الحدود قام بتسليح عدد من الرجال للتصدي لعصابات تجار المخدرات التي ظلت تعيث فسادا في بلادهم لسنوات.

أما الفيلم الثاني، فهو “مدينة الأشباح” (2017) الذي يمكن اعتباره المدخل “التسجيلي” لفيلم “حرب خاصة” الروائي، فهو يدور حول مجموعة من الشباب السوريين قرروا التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ومقاومته برصد وتصوير كل ما يمارسه التنظيم من أعمال عنف وتنكيل بالأهالي داخل مدينة الرقة السورية، وكشفها أمام العالم، ممّا يجعل أفراد المجموعة عرضة للانتقام من جانب داعش.

أما “حرب خاصة” (A Private War) الذي عرض عرضا عالميا أول خارج بلاده في مهرجان لندن السينمائي الذي اختتم مؤخرا، فقد كتب له السيناريو أرش عامل الكاتب الأميركي (من أصل إيراني)، واقتبس مادته من مقال ماري برينر “حرب ماري كولفن الخاصة” الذي نشرته مجلة “فانيتي فير” (أغسطس 2012).

وفيه تروي الكاتبة تفاصيل مدهشة عن سنوات العمل العصيبة في حياة الصحافية البريطانية المرموقة ماري كولفن التي قتلت في استهداف متعمد من جانب قوات النظام السوري لمكان وجود الصحافيين الأجانب في مدينة حمص في فبراير عام 2012.

من هي ماري كولفن؟ وكيف كانت شخصيتها؟ وما الذي دفعها لخوض غمار الحروب كمراسلة لصحيفة “صنداي تايمز″ اللندنية، حيث قامت بتغطية الكثير من النزاعات المسلحة، وانتقلت من سيري لانكا إلى بيروت ثم العراق وليبيا وسوريا؟

سياق متعرج

الفيلم يدور أساسا حول هذه الصحافية الأسطورية من خلال دراسة سيكولوجية لشخصيتها، رابطا بين تكوينها النفسي وميلها للمخاطرة والعمل المحفوف بالمخاطر ممّا أدى إلى نوع من “الإدمان” لهذا النوع من العمل الذي كانت تشعر فيه بمتعة خاصة، وهي تنقل المآسي التي يتعرض لها ضحايا العنف في كل مكان، وتنشرها على الرأي العام في الغرب.

وعلى الصعيد الشخصي كانت كولفن قد أصبحت عاجزة عن بناء حياة مستقرة تقليدية في بلدها، وبين هذين المحورين المتناقضين يظل الفيلم ينتقل بين الخاص والعام، ومن لندن إلى أماكن النزاع الساخنة، حيث تمارس كولفن عملها بمهنية فائقة.

الفيلم يدور حول الصحافية من خلال دراسة سيكولوجية لشخصيتها، رابطا بين تكوينها النفسي وميلها للمخاطرة

البناء إذن يأتي في سياق متعرج، غير خطي، يمتلئ بالكثير من التداعيات الذهنية والهواجس والكوابيس التي تطارد الشخصية الرئيسية، ويعكس ما انطبع في ذهنها ممّا شاهدته خلال قيامها بمهامها الصحافية في مناطق الخطر، فقد أصبحت تنهض مفزوعة من نومها تصرخ، تطاردها الكوابيس الثقيلة، ورؤية الدماء، تحاول التغلب على شعورها بالخوف، بالإقبال على الشراب.

ويكشف الفيلم تدريجيا من خلال العودة إلى الماضي، التكوين المعقد لشخصية كولفن في حياتها الخاصة: امرأة جامحة المشاعر، مندفعة، كثيرا ما يمكن أن تصبح هوجاء، ذات علاقات متعددة مع الرجال، زواجها الفاشل ثم استمرارها رغم ذلك، في علاقتها بزوجها السابق لفترة طويلة، قبل أن تتركه لتقيم علاقة مع المليونير الأميركي توني شو الذي يقع في حبها ويتابع ما تقوم به وهو يشعر بالقلق والاضطراب، بل والشفقة عليها من مصيرها المنتظر، إلاّ أن الفيلم لا يقطع بأن كولفن كانت تقع في حب من ترتبط بهم من الرجال، بل يصوّرها في علاقات أقرب إلى النزوات التي تنتج عن شخصية مضطربة المشاعر، مندفعة، تحاول الهرب من مواجهة الحقائق عن نفسها بالغرق في الشأن الإنساني العام الوقتية.

هذا فيلم من أفلام “دراسة الشخصية” (Characterstudy)، ولكن على مستوى آخر يتجاوز الفيلم بفضل السيناريو البارع والإخراج المتمكن، موضوع غرابة الشخصية ليصبح أيضا عملا من أعمال السينما السياسية التي تكشف عما يحدث من اعتداء على الإنسان وبوجه خاص في سوريا.

وفيه نشاهد القمع الذي لا يمكن تخيّله في أسلوب شبه تسجيلي، توفرت لتحقيقه كل عناصر الإنتاج، إلى جانب الأداء المؤثر من جانب الممثلة البريطانية الصاعدة بقوة روزاموند بايك (التي تألقت في بطولة فيلم “فتاة مختفية”The Gone Girl ) فقد نجحت كثيرا في تقمص دور ماري كولفن ومحاكاتها، بل وأضافت إلى الشخصية من داخلها ومن داخل إحساسها الشخصي بالأبعاد الإنسانية التي دفعت ماري كولفن إلى أن تصبح كما أصبحت وكما عرفها العالم، ممّا أدى في النهاية إلى أن تفقد حياتها في واحدة من تلك النهايات العبثية الدامية.

عقلية الهروب

الفيلم يصوّر كولفن في شجاعتها وجرأتها وإقدامها على المخاطر وإصرارها على التصدي لتغطية ما يدور من نزاعات في المناطق الخطرة، كما يتوقف أمام كفاحها من أجل إقناع رؤسائها في الصحيفة الشهيرة، وإصرارها على الحصول على الإمكانيات الضرورية لكي تقوم بما يمليه عليها إحساسها بالمسؤولية المهنية والذهاب إلى الأماكن الخطرة.

ماري كما يصوّرها الفيلم، شديدة التوتر، لا تكاد تتوقف عن التدخين، تبدو وقد أدمنت الشراب، وربما يداري هذا “الإدمان” شعورا لديها بالحزن الخفي المستقر في داخلها بسبب فشلها في الإنجاب بعد تكرار تعرضها للإجهاض، وربما كان دافعا لها للهرب الدائم إلى الخارج، ورفض القبول بالحياة المستقرة الطبيعية التي تنشدها المرأة، خاصة بعد أن تبلغ سنا معينا.

الممثلة البريطانية الصاعدة بقوة روزاموند بايك تألقت في تقمص دور الصحافية ماري كولفن ومحاكاتها بل وأضافت إلى الشخصية من داخلها
الممثلة البريطانية الصاعدة بقوة روزاموند بايك تألقت في تقمص دور الصحافية ماري كولفن ومحاكاتها بل وأضافت إلى الشخصية من داخلها

إنها تهرب دائما إلى المناطق الساخنة في العالم، حيث تلقي بنفسها في أتون الصراعات، تشعر بلذة خاصة وهي تتقدم الصفوف وتسبق زملاءها الصحافيين الرجال، وتقدم السبق تلو السبق في مجال الصحافة الاستقصائية الميدانية، كما تحصل على مقابلات استثنائية مع كبار الزعماء.

تكبر أسطورة كولفن وتحصل على أعلى تقدير في مجال الصحافة في بلادها، بعد أن تكون قد أصبحت تعيش وتتحرك وهي تضع عصابة سوداء فوق عينها اليسرى بعد أن فقدتها بفعل انفجار قنبلة يدوية في سريلانكا، قيل إنها كانت موجهة تحديدا ضدها من جانب القوات الحكومية في نزاعها مع مقاتلي نمور التاميل.

في العراق تخوض كولفن مغامرة تكاد تكلفها حياتها مع المصوّر الصحافي بول كونروي الذي تلتقيه في بهو الفندق في بغداد وترتبط معه بصداقة وطيدة، فهي تتحايل لكي تصل معه إلى حيث تقنع بعض العراقيين بمساعدتها في نبش مقبرة جماعية وتصويرهم وهم يخرجون منها جثث ضحايا القتل منها في مشهد مهيب، بينما تقف مجموعة من النسوة يرتدين الأسود، يندبن على ضحاياهن من الرجال، وهو المشهد الذي تنقله للمرة الأولى إلى العالم.

الإشارات الكثيرة التي يرسلها إلينا الفيلم عن شخصية كولفن لا تساعد تماما في الكشف عن الدافع الحقيقي الذي جعلها تلقي بنفسها وتستغرق تماما في ممارسة هذا النوع من العمل الصحافي الخطر، كما لو كانت تذهب إلى قدرها بإرادتها.

إنها تبدو مغالية في كل شيء: في موقفها من الرجال، في رفضها حياة المرأة “الطبيعية”، في رفض الالتزام بقواعد العمل الصحافي، فهي تتجاوزها باستمرار وتلجأ إلى الحيلة والكذب وتدفع المال أحيانا من أجل الوصول إلى ما تريد، وهي تغامر كثيرا حيث لا تجوز المغامرة، وتصل إلى حافة الموت مرات عدة، تقف أمام جثث الأطفال معذبة تريد أن تصرخ، يطاردها في كوابيسها شبح فتاة فلسطينية شابة جميلة تقبض على باقة من الزهور، تستلقي على ظهرها بعد أن فارقت الحياة في بيروت.

من هي ماري كولفن؟ هل هي صاحبة رسالة حقيقية تريد أن تبلغها للعالم كما تكرر كثيرا، أم أنها كانت تخوض في النهاية “حربها الخاصة”؟ ولكن حربها ضد من؟ ضد الظلم والاضطهاد والقتل؟ أم ضد نفسها وضد بيئتها التي تمردت عليها ورفضتها؟ أو ربما ضد كل هذه الأشياء جميعها.. هذه التساؤلات تظل معنا حتى بعد أن نغادر قاعة العرض.

اللقاء مع القذافي

بعد انفجار الثورة الليبية، تذهب كولفن لتجري مقابلة مع العقيد القذافي (يقوم بدوره في الفيلم الممثل العراقي الأصل رعد الراوي) الذي لا يخفي إعجابه بها، ويقدّمه الفيلم هنا كعادة السينما الغربية في صورة نمطية هزلية، في ملابسه الفضفاضة الزاهية الألوان، وعمامته الشهيرة، ثم وهو لا يهتم كثيرا بما توجهه إليه كولفن من أسئلة صعبة بقدر ما يهتم بلفت نظرها واستعراض سلطته وهيبته، ثم يحاول أيضا إغواءها، ويغازلها بقوله إنه لم يرغب في امرأة من قبل بقدر ما رغب فيها.. وأنه يجدها “أفضل من كوندوليزا رايس”.

لكن كولفن لا تعيره التفاتا، بل تمضي في طرح أسئلتها عليه، ثم تصبح في ما بعد من أوائل الصحافيين الغربيين الذين يتابعون أحداث مصراتة في ليبيا -كما نرى في الفيلم- وتشهد مصير القذافي وهو يلقى مصرعه ويقوم زميلها المصوّر بول كونروي بتصوير جثة القذافي وهي ترقد ممددة على الأرض، مشوهة، بعدما تعرضت له من تنكيل، بينما يكبر المسلحون ويهللون من حولها.

القذافي تعامل معها باستخفاف
القذافي تعامل معها باستخفاف

شخصية المصوّر بول كونروي مرسومة جيدا، وهي شخصية بارزة في الأحداث باعتباره كان شاهدا عليها وعلى مصرع كولفن في النهاية في حمص، بعد أن أصرت هي على أن تمنح مقابلة خاصة عن طريق شبكة سكايب، لقناة “سي.أن.أن” الأميركية، تكشف فيها للعالم ما يحدث في المدينة التي دُمرت تماما على أيدي قوات نظام بشار الأسد، ويقول الفيلم إن قوات النظام كانت ترصد الاتصالات، وأنها استهدفتها وقتلتها عن عمد عندما قصفت مكان احتماء الصحافيين الأجانب.

الفيلم مصنوع جيدا من ناحية إخراج مشاهد القصف والاشتباكات والدمار والقتل، لكنه يصل إلى ذروة سريالية في مشاهد قصف وتدمير حمص، ويضفي مدير التصوير روبرت ريتشاردسون، ملامح شديدة الواقعية والصدق على الصورة، وينجح في تصوير منح المشاهد المصوّرة في مناطق الحروب الطابع التسجيلي، مع الاستفادة القصوى من تفاصيل المواقع الخارجية التي أعادت مصممة المناظر صوفي بيشر تصميمها بحيث تحاكي الأماكن الحقيقية الأصلية علما وأن التصوير الخارجي تم في الأردن.

وينتقل الفيلم بين الأماكن المختلفة في مناطق النزاع باستخدام أسلوب كتابة التواريخ وأسماء الأماكن على الشاشة، ونحن نعرف منذ البداية أن كولفن قتلت بالفعل في 2012 من خلال الأسطر التي تظهر على الشاشة، ثم يعود الفيلم إلى الماضي، أي إلى ما قبل سنوات من مقتلها عندما ذهبت إلى أفغانستان حيث قامت بتغطية معركة قندهار.

ومن عيوب الفيلم الحوار المباشر الذي يرد على لسان كولفن وهو أقرب إلى القوالب أو “الكليشيهات”، فهي تقول لزميلها المصوّر في بهو الفندق في بغداد “هذه هي المسودة الأولى للتاريخ ويجب أن تجد الحقيقة في طياتها”، أو “ما يهم هو التكلفة الإنسانية للفعل”، أو “أريد أن يرى العالم كل هذه البشاعات”.

ويعتمد الفيلم كثيرا في الحوار على ما كانت تقوله وترويه كولفن لأصدقائها، أو على ما جاء في مقالاتها الصحافية من أوصاف وتعبيرات، ويعيب الفيلم أيضا المونتاج العصبي وكثرة الانتقالات السريعة الخاطفة التي لا تترك فرصة أمام المشاهد ليتبيّن طبيعة المكان، والتباين الكبير في الإيقاع بين المشاهد التي تدور في لندن (معظمها مشاهد استعادة للحظات في حياة كولفن في الماضي أو مشاكلها مع رئيس التحرير، وعلاقاتها العاطفية) وبين المشاهد الحية المباشرة التي تدور أثناء قيامها بعملها الصحافي في المناطق الخطرة.

إلاّ أن الفيلم رغم هذه الملاحظات، يتمتع بالصدق والإقناع، وهو يعيد إلى الصدارة دور المراسل الصحافي في مناطق النزاعات، على نحو يذكرنا بأفلام أخرى كثيرة ظهرت في الغرب مثل “حقول القتل” و”تحت النار” و”عام العيش الخطر”، ولا شك أنه سيلعب دورا في لفت أنظار العالم إلى المأساة الدامية الدائرة في سوريا.

16