"لا".. عبارة الردع المؤقت ترسم حدودا للعلاقة مع الأبناء

لا شك أن الأبوة والأمومة عمل شاق، ومن ضمن أهم مسؤوليات هذا العمل ترديد كلمة “لا” ربما آلاف المرات على مسامع الأطفال، لمنعهم من ارتكاب الأخطاء أو تعريض أنفسهم للخطر أو حتى خوض مغامرة غير محسوبة العواقب. ويختلف استخدام كلمة الردع المؤقت “لا”، بحسب عمر الطفل؛ فالصغير الذي لم يكمل عامين من عمره يواجه بسيل من اللاءات لحمايته من الإتيان بأشياء قد تسبب له الأذى، فنقول له: لا تقترب من النار أو لا تلمس هذه السكين… وتستمر “لا” في مطاردة الأبناء حتى أعمار أكبر حيث تكون في الغالب رداً سريعاً ومناسباً على سلوك لا يعجبنا.
يمكن أن تتلقى الإبنة المراهقة التي تطلب الإذن للمبيت في بيت صديقتها إجابة بالرفض في أغلب الأحيان، والشاب في مقتبل العمر الذي يطالب أبويه باقتناء سيارة حديثة يجابه بعلامة تعجب مرهونة بالرفض القاطع بكلمة "لا".
لكن، هل فكر الوالدان يوماً في مدى التأثير المزعج الذي تحدثه هذه الكلمة في نفوس أبنائهما، بصرف النظر عن الفعل الذي اقترفوه أو نية اقترافه؟ وهل تؤتي هذه الكلمة الرادعة ثمارها مباشرة وتفقد بريقها في وقت قصير أم يمتد تأثيرها إلى فترة زمنية أبعد من ذلك؟
يؤكد أستاذ علم النفس في جامعة ولاية نيويورك الأميركية، د. غلين غوهر، أن الرفض والتصرف بسلبية من قبل الوالدين بصورة مفرطة، قد يتسببان في مشاكل نفسية للأبناء أهمها تخلخل ميزان احترام الذات والثقة بالنفس.
ويشير غوهر الذي ألف العديد من الكتب في مجال علم النفس التطوري، إلى أن بعض الناس يمارسون سلوك الرفض كجزء أساسي من طبيعة شخصياتهم، فيرفضون الآخرين باستمرار ويخلقون جواً مثيراً من الضغائن والأحقاد في المجتمع، ويتفاقم تأثير هذه السمات السيئة في شخصياتهم عندما يلعبون دورهم الاجتماعي الأخطر؛ أي عندما يكونون آباء وأمهات. ويشير خبراء علم النفس إلى هذه الظاهرة باصطلاح “الثالوث المظلم”، وهو تعبير عن السمات الشخصية التي يحملها بعض الأشخاص حيث يتكون الثالوث المظلم بحسب التسمية من ثلاث سمات هي في الغالب: تمتع الشخص بمستويات عالية من النرجسية وهي نزعة التركيز المفرط على الذات، ثم النزعة “الماكيافيلية” أي الازدواجية في السلوك العام، وهي في معناها السياسي العام سمة شخصية مستترة ماكرة تفتقر إلى القوانين الأخلاقية، وفي تشخيص أكثر علاقة بسلوك الوالدين فإنها تعتبر ميلاً إلى التلاعب بالآخرين من أجل المصلحة النفسية للشخص ذاته باعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة، أما الذراع الثالث من هذا الثالوث المظلم فهو الاعتلال النفسي؛ ومن أبرز أعراضه عدم الميل إلى الاهتمام بمشاعر الآخرين واستخدام القسوة في تجاهل مشاعر الآخرين واستخدام الخداع لغرض التوصل إلى إقناعهم بهدف يبدو في ظاهره أنه لمساعدتهم ويصب في مصلحتهم، لكنه ليس كذلك في الحقيقة.
التقيد بحدود معينة يعد أمرا حيويا في التربية، في حين أن الحكمة تقرر مدى تواتر استخدامنا لكلمتي 'نعم' و'لا'
مع ذلك، فإن الخصال الثلاث (النرجسية والماكيافيلية والاعتلال النفسي) مستقلة عن بعضها البعض عموما، مع أنه قد يتزامن وجودها معا في نفس الشخص أحيانا، مما يشكل لديه ما يمكن تسميته بـ”الثالوث المظلم”. ويعتقد أن هؤلاء الأشخاص يمكن أن يخسروا من عدة أوجه أخرى، وخاصة من الناحية الاجتماعية، على الرغم من أن الناس الذين لا يعرفونهم جيدا قد يعتقدون أنهم يتمتعون بشخصية قوية، إلا أنه على المدى المتوسط والبعيد قد تكون هناك مواقف يصبح فيها الناس غير معجبين بسلوكيات هؤلاء الأشخاص.
هذه النظرية قد تفسر وجود بعض الآباء الذين يعانون من برود مشاعرهم تجاه أبنائهم وعدم استعدادهم لدعمهم عاطفياً ونفسياً، ولسوء الحظ فإن بعض هؤلاء الأشخاص الذين يحملون سمات “الثالوث المظلم” قد ينتهي بهم الأمر بصورة حتمية إلى أن يصبحوا آباء وأمهات! حيث يتضح أنهم “أحد هؤلاء الأشرار” من دون أن يعرفوا أنفسهم بذلك. هؤلاء للأسف، قد يرفضون مطالب أبنائهم لمجرد الرفض ولا يهتمون بمشاعر هؤلاء الأبناء ويتصرفون وفق مصلحتهم الشخصية ذاتها، لهذا تتملك الأبناء مشاعر عدم الثقة بالنفس ثم يسجلون تقديراً منخفضاً في ميزان تقدير الذات.
ويشير د. غلين غوهر إلى أننا عندما نلعب دور أحد الوالدين نكون في موقع قوة وسلطة شئنا أم أبينا، وحين يتعلق الأمر بحقيقة كوننا قادة فلدينا أحد خيارين لا ثالث لهما؛ حيث يتطلع بعض القادة إلى دعم من هم في محيط سلطتهم وبناء جسور من الثقة بينهم وبين الآخرين إضافة إلى تعزيز ثقة هؤلاء بأنفسهم، بينما يعمد آخرون في موقع القيادة وهم غالباً من المتعطشين للسلطة الخالصة ذاتها، إلى ترهيب الآخرين والسعي إلى إضعافهم لغرض تأكيد سطوة السلطة. ولعل تفكير أحد الأبوين بأحد هذين الخيارين من شأنه أن يحدد طبيعة العلاقة التي تربطه بأبنائه.
ومثلما يتضح تأثير كلمة “لا” السلبي فإن كلمة “نعم” لها سحرها الواضح، حيث تسهم في تعزيز بيئة آمنة ومتصالحة ودافئة في المنزل وهذا من شأنه أن يعمل على زرع الشعور بالثقة بين الطرفين، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة وضع سقف معين من التسامح لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال؛ إذ أن بعض الانضباط والتقيد بحدود معينة يعد أمراً حيوياً في التربية، في حين أن الحكمة وحدها هي التي تقرر مدى تواتر استخدامنا لكلمتي “نعم” و”لا” بطريقة تبادلية واعية ومسيطر عليها، بحسب ما تقتضيه المواقف المختلفة التي تستدعي الحسم السريع فضلاً عن إتاحة الفرصة للأبناء كي يشعروا بالثقة في إمكانية التجربة والوقوع في الخطأ، والطريقة التي يتبعونها لمواجهة الفشل الذي يسببه.