يكفي من "التفلسيف" علينا

انتقد صديقنا الناقد المصري الراحل محمود أمين العالم في كتابه “الوعي والوعي الزائف” عبارة تتردد باستمرار على الألسنة في المجتمع المصري وهي “بلاش فلسفة”، ويقال إنها تعني الدعوة إلى الكف عن تبرير ما لا يبرر من طرف هذا الشخص أو ذاك، ولكن الراحل محمود العالم قد رأى في هذه العبارة سخرية واستهزاء من الفلسفة والفلاسفة ومن المشتغلين في حقل الفكر والثقافة بشكل عام.
وفي الواقع فإن الذين يرددون عبارة “بلاش فلسفة” في مجتمعاتنا يقصدون عمليا أنَ التفلسف هو ممارسة للكلام الذي لا ينفع، أو لا يحلب بالتعبير الشعبي، وفي هذا الخصوص نجد فلاسفة التقليد المنطقي الوضعي الفلسفي الإنكلو-سكسوني يصنفون الأحكام الفكرية التي لا تتطابق حرفيا مع الوقائع أو لا تنفع ماديا أو لا تخضع للتجربة الملموسة في خانة الميتافيزيقا، ويوصون برميها في سلة المهملات.
فهل يمكن لنا أن نتخيّل، مثلا، أن عبارة “بلاش فلسفة” المنتشرة عندنا قد انحدرت من رفض الوضعية المنطقية للميتافيزيقا؟ لا أعتقد طبعا في ذلك خاصة وأنني قد سمعت بنفسي في الشهور القليلة الماضية رجل الأعمال الجزائري علي حدَاد، الذي نصب مديرا عاما على رأس أكبر تجمع اقتصادي في الجزائر وهو منتدى رؤساء المؤسسات، يرد بسخرية قاسية ومعبأة بالاحتقار على أسئلة لم ترقه طرحها عليه صحافي يعمل بإحدى الفضائيات الجزائرية هكذا “يكفي من التفلسيف علينا”، بمعنى يكفينا من الكلام الفارغ. لا شك أن مثل هذا الموقف يتناقض كلية مع التفلسف الذي هو أساس العلم والتقدم الحضاري.
خارج هذا السياق الكئيب نشرت المجلة البريطانية “الفلسفة الآن” في عددها الأخير خبرين مفرحين، أولهما يؤكد أن رجل الأعمال الأميركي بيل ميللر الذي درس الفلسفة في شبابه بجامعة جون هوبكنز الأميركية قد تعهد بدفع هبة مالية قدرها 75 مليون دولار لقسم الفلسفة فيها وذلك بقصد “تعزيز البحث الفلسفي في كلية الفلسفة ودراسة الفلسفة في مرحلة التدرج وما بعد التدرج”.
ثم خاطب هذا الرجل الجامعة التي تعلم فيها معترفا لها هكذا “إنني أعيد الكثير من نجاح عملي إلى التدريب التحليلي وعادات العقل التي طورتها عندما كنت طالبا في مرحلة التدرج بجامعة جون هوبكنز”.
أما الخبر الثاني المنشور في العدد نفسه فيبرز أن الصين قد نظمت ندوة فلسفية باهرة في شهر أغسطس الماضي بعنوان “نتعلم كي نكون بشرا”، ودعت إليها أكثر من 8000 مشارك. فهل يحق بعد كل هذا أن يقول الناس في بلداننا “بلاش فلسفة” أو “يكفينا من التفلسيف علينا؟”.