لوح مغربي أسود في باريس

باريس - تعمل الفنانة المغربيّة-الفرنسيّة بشرى خليلي (1975) على استكشاف الحدود بين الذاتي والسياسي، هي تستخدم الوسائط الفنيّة المختلفة كالتصوير والفيديو لتكشف عن مكامن القمع والتمييز اللذين يخضع لهما الفرد، ما يجعل التجربة الجماليّة مساحة لاكتشاف تقنيات الهيمنة، وافتضاح أساليب التصنيف التي تمارسها السيادة لنفي جماعة بشريّة ما، واحتواء أخرى، هذه المقاربة تتيح للموضوعة الإنسانيّة أن تحدث بصوتها، كاشفة عن تجربتها الشخصيّة وممارسة حقها بالظهور، ليكون صوت الفرد اختزالا لصوت الجماعة المنفيّة.
يقيم متحف “le jeu de paum” في العاصمة الفرنسيّة باريس، معرضا لبشرى خليلي، بعنوان “لوح أسود” المستوحى اسمه من جاك لوك غودار، الذي أجاب طلاب جامعة يال حين سألوه عن نشاط جماعة دزيغا فيرتوف السينمائيّة بقوله “أن تصنع فيلما هو كهذا اللوح الأسود، ولا شيء أكثر، مكان الفيلم هو بالضبط هنا، لكن يعود لكم الأمر لفحص اللوح وفعل شيء ما به”.
يحوي المعرض أعمالا فوتوغرافية وفيديوية وصوتيّة يعود تاريخ إنتاجها للسنوات العشر الأخيرة، وموزعة ضمن مساحات صالة العرض دون ترتيب محدد، ما يتيح للزائر أن يقف أمام كل واحد منها، ليستكشف كيف يتحدث ضحايا القمع عن استراتيجيات الدفاع والمقاومة التي يمارسونها بوجه عنف السلطة.
يتيح لنا المعرض مشاهد أحدث شرائط خليلي المُنتجة هذا العام، وهو بعنوان اثنين وعشرين ساعة، والذي تتبع فيه زيارة الكاتب المسرحي والناشط السياسي الفرنسي جان جينيه إلى الولايات المتحدة في السبعينات، بناء على طلب من حزب "الفهود السوداء"
يلفت الانتباه في المعرض شريط “البحار”، الذي أنجزته خليلي عام 2012 في هامبورغ في واحد من أكبر موانئ أوروبا، ونشاهد فيه حكاية عامل فلبيني يحدثنا عن معاناته وعلاقته مع منزله وعمله، بعد أن تم تحويل المرفأ إلى آلة ضخمة تقوم بتعبئة وتفريغ البضائع بصورة آلية، أشبه برقصة آلية لامتناهية، يُنفى البشريّ منها، ويترك وحيدا بوجه أوبرا الآلات.
سياسات النفي هذه تتضح في “مشروع رحلة الخارطة” الذي أنتج بين عامي 2008 و2011، والمؤلف من ثمانية فيديوهات، تحاول الفنانة عبرها تقديم خرائط بديلة تتجاوز تلك السياسية، عبر توظيف وجهة نظر المهاجرين وعابري الحدود بصورة غير شرعيّة، إذ ترسم خطوط رحلات الهجرة إلى أوروبا من شمالي أفريقيا عبر البحر المتوسط، لتكون الخارطة الجديدة تحديا للحدود السياسيّة وأنظمة الفرز، كونها تعكس التجربة البشريّة الصرفة في سبيل البحث عن حياة أفضل، حيث يتجاوز الفرد تعريفه كموضوعة سياسيّة مضبوطة الحركة، نحو تجربة خطرة هدفها النجاة والتحرر من القيود السابقة.
نشاهد في المعرض أيضا مجموعة الصور التي التقطتها خليلي في الولايات المتحدة عام 2012 بعنوان “سلسلة الأقدام المبتلة”، والتي تتبع فيها المهاجرين غير الشرعيين نحو ميامي في الولايات المتحدة، إذ نشاهد آثار أقدامهم على ضفاف نهر ميامي، لنقف أمام “آثار” أشبه بعلامات أحفورية عن المعاناة البشريّة للوصول إلى بر الأمان، وخصوصا أن السياسات الأميركيّة الجديدة بعد زلزال هايتي، أتاحت للسلطات أن تعيد المهاجرين من حيث أتوا وخصوصا الكوبيين منهم، إذ خسروا حق الاستفادة من فرصة المطالبة بالإقامة الشرعيّة، حتى لو وصلوا إلى أراضي الولايات المتحدة، ولم يتم إلقاء القبض عليهم في المياه.
يتيح لنا المعرض مشاهد أحدث شرائط خليلي المُنتجة هذا العام، وهو بعنوان اثنين وعشرين ساعة، والذي تتبع فيه زيارة الكاتب المسرحي والناشط السياسي الفرنسي جان جينيه إلى الولايات المتحدة في السبعينات، بناء على طلب من حزب “الفهود السوداء”. حينها تحدث جينيه علنا أمام الجماهير وأعلن تضامنه مع الحزب وقادته.
تحاول خليلي في الشريط السابق فهم دور الشاعر والكاتب في النضال السياسي من أجل الفئات المقموعة، إذ تسعى إلى تفكيك مفهوم الشهادة، سواء كانت شهادة جينيه أو شهادتها نفسها، أو من يسترجعون صوره ومن حضروا كلامه، وذلك عبر تقنيات المونتاج والسرد المختلفة، لفهم علاقة الشهادة مع التاريخ وكيفية سرده، سواء نصيا أو بصريا.